التخول بالموعظة طريق الداعية لسلب قلوب الناس

على الداعية أن يغتنم الفرص المناسبة التي تتهيأ فيه النفوس للموعظة
ومن واجب الداعية اختيار الموضوع المناسب والمكان المناسب والزمن الملائم للموعظة
تعتبر المواعظ رسائل ونصائح توجيهية غايتها محبة الخير والرغبة في الإصلاح، وقيل دائمًا أن المواعظ هي سياط القلوب فهي توجه الناس للسير على الصراط المستقيم، والسير على نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يمكننا تعريف الموعظة كما قال ابن منظور -رحمه الله- “الوعظ والعظة والموعظة: النصح والتذكير بالعواقب” قال ابن سيدة: “هو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب”.
أو كما عرفها الراغب الأصفهاني  -رحمه الله- “الوعظ زجرٌ مقترنٌ بتخويف” قال الخليل: “هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب” وذلك كما ذكره محمد بن إبراهيم الحمد في كتابه أدب الموعظة.
وأشار الكاتب الحمد إلى مقاصد الموعظة وحكمها ومن هذه المقاصد التي ذكرها: إقامة حجة الله على خلقه، إضافة إلى الإعذار إلى الله -عز وجل- والخروج من عهدة التكليف، ومن مقاصدها أيضًا: رجاء النفع للمأمور إلى جانب الخوف من عقاب الله وتقديم النصيحة للمؤمنين.
كما أن للموعظة آداب ذكرها الكاتب في كتابه منها:
– أن يتحلى الواعظ بالتقوى، وإخلاص النية.
– وثاني أدب من آداب الموعظة العلم فَعِلْم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقيةً من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس.
– ومن الآداب أيضًا لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس فعادة القلوب تقبل على من يتواضع لها وتنفر ممن يزدريها، ويؤكد الكاتب أن على الواعظ أن يكون ليِّن العريكة، وممن يَألَف ويُؤلَف، وألا يكون قاسي القلب جافي الطبع.
في الإطار ذاته أكد محمد بن إبراهيم الحمد أن الواعظ في أشد الحاجة إلى الصبر والحلم فلا يجوز للواعظ أن يكون ضيق الصدر، قليل الصبر.
ومن آداب الموعظة التي ذكرها الحمد أيضًا: رباطة الجأش وقال: “إن هذه الخصلة تولد مع الإنسان، ويكتسبها أيضًا بالممارسة، والمران، والدربة، كما أنها تتقوى بموجبات الإيمان”.
فيجمل بالواعظ أن يتصف بهذه الخصلة الحميدة؛ حتى يعتاد لقاء الجمهور، والحديث إليهم بطلاقة ويسر، كذلك على الواعظ أن يعتني بمظهره بلا إسراف هذا بالإضافة إلى ضرورة الاستعداد للموعظة إذا كان في بداية طريقه.
ومن الآداب التي دعا لها الحمد في كتابه أيضًا: قوة الملاحظة، وحضور البديهة، ومراعاة المدة الزمنية للموعظة.
ومن أهم آداب المواعظ التي عرج عليها الحمد التخول بالموعظة فقال في هذا الإطار: “أن التخول بالموعظة أدعى للاشتياق، وأحرى لقبول الموعظة والانتفاع بها؛ فجدير بالواعظ ألا يكثر من وعظ أناس بأعيانهم، أو يتابع عليهم الوعظ مرارًا قريبًا بعضها من بعض؛ فإن النفس شرود، وإن كثرة الوعظ تفقده أثره”.
بدوره أكد عبد الباري خلة الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بفلسطين أن المسلم إذا اشتغل بالمواعظ لا بد أن يكون حكيمًا فإذا رأى من المستمعين إقبالاً؛ فلا ينساق لرغبتهم؛ لئلا تحصل السآمة، بل يكون وسطيًا؛ ليحصل لهم الدوام، فأحب الأعمال إلى الله أدومها، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال (سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يُدْخِلَ أحدُ عمله الجنة وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل). رواه البخاري.
وتطرق خلة: خلال حديثه إلى مقومات الواعظ النافع مبينًا أن الواعظ عليه أن يكون الواعظ صادقًا في نصحه للناس، محبًا لهم مشفقًا عليهم؛ ليكون لوعظه أثر نافع.
ولا بد أن يختار الواعظ الموضوع الذي يحتاج له الناس، وأن يختار الوقت المناسب، والمكان المناسب والزمن الملائم.
فعن أبي وائل قال: كان عبد اللهِ -ابن مسعود- يذكِّر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوَدِدْتُ أنك ذكَّرْتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكُمْ وإني أَتَخَوَّلُكُمْ بالموعظة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بها مخافة السآمة علينا. رواه البخاري، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولهم بالموعظة كراهة السآمة عليهم.
ويذكر الشيخ عبد الباري خلة الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يتأثرون بالموعظة، وكان يذكرهم بالله، وكانت قلوبهم رقيقة وأعينهم سيالة، وأبصارهم خاشعة فأثرت بهم المواعظ، فانقطعوا للعبادة، وتركوا الدنيا وملذاتها.
وقال خلة: خلال حواره مع موقع دعوتها: “من الذين تأثروا بالمواعظ عثمان بن مظعون حيث اعتزل امرأته، فلم تعتن بنفسها، فأنكر عليها أمرها؛ واعتذرت لمن راجعها قائلة: إن زوجي ليس له رغبة في النساء فقد انكب على العبادة، فكان يقوم الليل، ويصوم النهار، وقد أنكر عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلته ورد عليه تبتله، فعن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التَّبَتُّلَ ولو أَذِنَ له لاختَصَيْنَا. رواه مسلم.
وأكد خلة: على الصعيد ذاته أنه لا بد في الدعوة من يسر ولين ووسطية بين التبشير والإنذار، فعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا. رواه البخاري.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب التيسير في الأمور كلها، وينكر التشدد الذي يؤدي بالمسلم إلى الانقطاع عن العبادة أو الملل والسآمة، فعن عبد الله بن عمرو قال: أنكَحني أبي امرأةً ذات حسب فكان يتعاهد كنَّته فيسألها عن بعلها فتقول: نِعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشًا ولم يفتش لنا كَنَفًا منذ أتيناه فلما طالت ذلك عليه ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ألقني به فلقيته بعد فقال: كيف تصوم قال: كل يوم قال: وكيف تختم قال: كل ليلة قال: صم في كل شهر ثلاثةً واقرأ القرآن في كل شهر قال قلت: أطيق أكثر من ذلك قال: صم ثلاثة أيامٍ في الجمعة قلت: أطيق أكثر من ذلك قال: أفطر يومين وصُم يوم ا قلت أطِق أكثر من ذلك قال: صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم واقرأ في كل سبع ليال مرة فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرت وضعفت فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوَّى أفطر أيامًا وأحصى وصام مثلهنَّ كراهية أن يترك شيئًا فارَقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه قال أبو عبد الله وقال بعضهم في ثلاث وفي خمسٍ وأكثرهم على سبعٍ. رواه البخاري.
وأورد خلة مثالاً آخر وقال قد أنكر سلمان الفارسي على أخيه أبي الدرداء انقطاعه للعبادة وأرشده أن يعطي كل ذي حق حقه وأقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً فَقَالَ مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً قَالَتْ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا قَالَ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا فَقَالَ كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ قَالَ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ قَالَ فَأَكَلَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ نَمْ فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ لَهُ نَمْ فَنَامَ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ قُمْ الْآنَ فَقَامَا فَصَلَّيَا فَقَالَ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ صَدَقَ سَلْمَانُ. رواه الترمذي بسند صحيح.
وقد علم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرهط الذين جاؤوا يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبقوا بشرًا معتدلين يأخذون من الدين والدنيا فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما أُخْبِرُوا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال: أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا؛ وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر؛ وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؛ أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصُوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمَن رغِبَ عن سنتي فليس مني. رواه البخاري.
وأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على زوجه زينب فعلها المتشدد فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبلٌ ممدود بين الساريَتَيْن؛ فقال: ما هذا الحبل قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فتَرَت تعلَّقت فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: (حلّوه، ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإذا فَتَر فليقعد). رواه البخاري.
وعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس، لا يدري لعله يستغفر فيسُب نفسه). رواه البخاري.
وختم فضيلة الشيخ خلة حديثه مشيرًا أن العبرة ليست بكثرة العبادة بقدر ما هي امتثال لأوامر الله تعالى، وإخلاص النية له بل لا بد من التوسط في العبادة، وعدم إدخال الملل والسآمة على النفس بكثرة العبادة، ولا بد من النظر إلى حال الناس فإن منهم الضعيف الذي لا يقوى، والمسافر الذي يحب إنجاز عمله وصاحب الحاجات الذي تهمه أشياؤه.
فعن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إني والله لأتأَخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يُطيلُ بنا فيها قال: فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبًا في موعظةٍ منه يومئذٍ، ثم قَالَ: يا أيها الناس إن منكم منفِّرين؛ فأيكم ما صلى بالناس فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ فيهم الكبير والضعيف وذا الحاجة. رواه البخاري.
ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- التخفيف عن صحابته وقد أنكر عل معاذ تطويله الصلاة بأصحابه فعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْأَنْصَارِيُّ لِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ فَانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَّا فَصَلَّى فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ فَقَالَ إِنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ مُعَاذٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى. رواه مسلم.
وكان -صلى الله عليه وسلم- من هديه أن يختار الأوقات المناسبة للوعظ والتذكير بأمور الآخرة، فمن ذلك قصة حنظلة فعن حنظلة الأُسَيِّدي قال: وكان من كُتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيَني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة، قال قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول: قال قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال: أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأوْلاد والضيعات نسينا كثيرًا فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافَحَتْكُم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً ثلاث مرات. رواه مسلم.

 

Scroll to Top