آثار العولمة في تنمية المجتمع ومسؤولية الفرد والمجتمع نحوها الجزء الأول.

آثار العولمة على تنمية المجتمع المسلم، ومسؤولية الفرد والمجتمع نحوها:
ضيفة الحوار: نورة السعد.
أجرت الحوار: شبكة الفجر.
“بتصرف”.

الجزء الأول
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإخوة والأخوات أعضاء شبكة الفجر والمسؤولين عنها، وبعد:
أشكركم على الاستضافة، وعلى الثقة لللقاء معي عبر هذه الشبكة وهي من إيجابيات “العولمة”، كما أنني سأستعرض بعض المفاهيم التي ستسهم في استيعاب  المقصود بالعولمة كبداية، وربما ستجيب في الوقت نفسه عن عدد من الأسئلة التي توجه بها الإخوة الأفاضل.
س1- ما مفهوم العولمة أو بداياتها؟
في البداية: دعونا نعود للخلف قليلاً  لنرى من يقول أن العولمة بصفتها حلمًا أو فكرة راودت الإنسانية منذ فجر تاريخها؛ فالإيمان بعقيدة الإله الواحد في مختلف الأديان تفترض وجود عالم  واحد في ظل الخالق الواحد سبحانه وتعالى، وإذا أخذنا مثالاً مضيئًا للرسالة الإسلامية؛ فإن أبرز غاياتها توحيد العالم في  ظل الإسلام أي: “عولمته” إسلاميًا.
ونجد أنه عند ظهور الإسلام وانتشاره في البلدان تحقق ولأول مرة في التاريخ  انصهارًا للحضارات الآسيوية الشرقية والحضارات الأوربية الغربية القديمة من  إغريقية ورومانية بعناصرها المختلفة، ولكن ضمن الإطار الجامع للحضارة  الإسلامية، التي كانت بمقياس عصرها “حضارة عولمة” بامتياز.
ولكن هذه الحضارة أو هذه العولمة الإسلامية لم تكن قهرًا لبقية الحضارات، بل كانت مدًا واحتواءً ثقافيًا استوعب باقي الحضارات، وحافظ على هويتها الثقافية، بعد أن أصّلها بقيم إسلامية وعربية؛ تسعى لخدمة الإنسان، فلم يسعَ لاستغلاله وقهره وطمس هويته.
هذه المقدمة قد توضح أن العولمة المعاصرة والتي ظهرت بشكل قوي بعد سقوط الحائط الفاصل بين الاشتراكية والرأسمالية في برلين عام 1989 م وتفرُّد الولايات المتحدة الأمريكية بقوة اقتصادية وتكنولوجية هائلة هي موجودة بشكل أو بآخر لدى كل من يسهم في التقدم العلمي.
ولا بد من التأكيد على نقطة مهمة في فهم العولمة وفي حقيقتها الموضوعية وقبل الدخول في شرح تعريفاتها من حيث هي تقدم هائل في التقنيات وعلوم الكمبيوتر ووسائل الاتصال وسيطرة  التجارة العالمية، أو فرض ثقافة معينة هي الثقافة الغربية بالدرجة الأولى بالذات في مجال الإنجاز العلمي بعامة؛ سنجد أنها ليست احتكارًا أمريكيًا أبديًا بل إنه ميزة يابانية وأوربية وهو في طريقه لأن يكون ميزة صينية وهندية، والمجال مفتوحًا هنا لكل أمة مقتدرة على ذلك.
س2- ما هي العولمة؟
سنجد أن هناك عدم اتفاق على تعريف العولمة، وليس هذا في عالمنا العربي  فحسب، بل في المجتمعات الغربية؛ لأن معظم التعريفات التي قُدمت أو شرحت العولمة يغلب  عليها الطابع الاقتصادي؛ ذلك أن مفهوم العولمة من نتاج النظام الرأسمالي وآثارها واضحة في مجال الاقتصاد بالدرجة الأولى، وربما استعراض عدد من هذه التعريفات سيوضح هذا التباين؛ فهناك من يعرف العولمة بأنها: “حركة تستهدف تحطيم الحدود الجغرافية والجمركية، وتسهيل انتقال رأس المال عبر العالم كله كسوق كونية”، وتعريف آخر نجده يتوقف عند أنها: “التداخل بين الأمور والمسائل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية دون اعتبار للحدود السياسية للدول ذات  السيادة وأنظمتها وتشريعاتها ودون الحاجة إلى إجراءات حكومية خاصة بدولة أو بأخرى”، على سبيل المثال ما قد يواجه أي دولة ترغب بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية؛ فإن وفق قانون إسقاط الحدود الجمركية هذه الدولة أو تلك ستُجبر على الرضوخ لبنود هذه المنظمة التي تسقط أي قيود شرعية أو دينية  على السلع والبضائع التي سيتم استيرادها، على سبيل المثال لن تكون هناك أي قيود على استيراد المشروبات الروحية مثلاً!! ناهيك عن إسقاط أي دعم حكومي للسلع أو الخدمات الأساسية في كل مجتمع مثلما هو الحال الآن؛ فالعولمة مذهبها الأساس هو حرية السوق، وتحرير التجارة من جميع القيود، وتطالب بدعم حرية رؤوس الأموال في التنقل عبر الدول وعبر الحدود بعيدًا عن الحواجز المعتادة الخاصة بكل دولة، وبالطبع تشجع الاستثمار الأجنبي.
وهو كنظام وهيمنة اقتصادية إنما تنشر مجموعة من القيم السياسية والاجتماعية  والثقافية، بالرغم أن العولمة الاقتصادية تشترط الديموقراطية والتعددية  السياسية، واحترام حقوق الإنسان؛ لكنها تركز على الفردية التي كانت دائمًا هي القاعدة الأساسية لدى الحضارة الغربية والتي توجه سلوك البشر هناك، والعولمة ظاهرة اقتصادية وسياسية وثقافية تجتاح العالم من خلال عمليات انتقال  السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج الهائلة، وبالطبع هناك انتشار يواكب هذا التقدم الهائل في وسائل الاتصال والثورة المعلوماتية.
وهناك انتشار هائل آخر في القيم والعادات والثقافات الغربية، وإن العولمة من خلال آلياتها الاقتصادية تسعى إلى صياغة نسق من القيم الكونية؛ تمييزًا لها بأن تكون قيم تنتمي لخصائص حضارة معينة، وهذه القيم سواءً فيما يختص بالسلوك الاقتصادي أو النظام العائلي أو القيم والأعراف والتقاليد والمخالفات تمامًا لقيمنا الإسلامية بالدرجة الأولى يريد أنصار العولمة والذين يديرون أمورها عالميًا أن تعم “قيم العولمة الكونية” مقابل تغييب ما هو لدى الشعوب الأخرى من ثقافات.
وهناك تعريف لأدوارد لتوك يرى أن “العولمة انصهار العدد الهائل من  الاقتصاديات المحلية والإقليمية والوطنية في اقتصاد عالمي شمولي واحد لا  مكان فيه للخاملين بل يقوده أولئك الذين يقدرون على المواجهة …”، وتحليل هذا التعريف يوضح أن المرحلة الاقتصادية تتطلب الكفاءة العلمية والمقدرة المهنية والتدريب العالي؛ كي يجد أفراد المجتمع موقعًا لهم في خارطة العمل  المتخصص.
ولكن هناك من يرى أن هذا التعريف يؤكد الفكرة الأساسية للرأسمالية التي تقوم على “من لا يستطيع كسب قوته ينبغي أن يموت!!!” وهناك أصوات في الغرب الاقتصادي تنادي بأن المليار من فقراء العالم الثالث كما يطلق على المجتمعات ذات الاقتصاد المتخلف زائدون عن الحاجة؛ فالبقاء للأقوى، هذه المنطلقات ينبغي ألا تغيب عن الذهن.
والعولمة تعني بالدرجة الأولى اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وانتقال الأموال والقوى العاملة، والثقافات ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق وتاليها خضوع العالم لقوى السوق العالمية، وهذا يعني انحسار كبير في سيادة الدولة، بمعنى آخر أن من سيتحكم في السوق العالمي هم الشركات الرأسمالية الضخمة متعددة  القوميات، ولن تتمكن الدولة التي ستنضم مثلاً في منظمة التجارة العالمية أن تكون لها السيادة الاقتصادية في أنظمتها أو تشريعاتها، وهذا من الفروق بين مفهوم العولمة الاقتصادية والاقتصاد الدولي؛ لأن مفهوم الاقتصاد الدولي يركز على علاقات اقتصادية بين دول ذات سيادة، وقد  تكون هذه العلاقات منفتحة جدًا في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة وغير  المباشرة، ولكن يبقى للدولة دور كبير في إداراتها وفي إدارة اقتصادها.
س3- هل بالإمكان تجنب العولمة؟
معظم المجتمعات تقع في نطاق العولمة؛ فاستخدامنا لشبكة الإنترنت الآن هو من نتائج العولمة، فهي في جوانبها التقنية والطبية والإنجازات العلمية في العلوم، وتسخير  العلم لخدمة البشرية في الزراعة والصناعة …إلخ يمكن اعتبارها من إيجابيات العولمة، ولكن الرفض لها يتركز حتى لدى المجتمعات الغربية الأوربية أو دول أمريكا اللاتينية التي تعاني اقتصادياتها من تخلف.
وينطلق من أن الجانب الاقتصادي هو الخطر القادم؛ لأن العالم هو سوق مفتوح للتجارة الدولية، والأسواق الوطنية أصبحت ساحة تصارع الشركات العالمية الضخمة التي تبلغ ميزانية واحدة منها فقط ما يماثل ميزانية 5 دول في عالمنا  العربي، هنا نجد أن هذه الشركات العالمية بنماذجها المختلفة سواءً كانت تتبع النموذج  الأمريكي أو الياباني أو الأوربي أو الصيني، ولكلٍ منهم هدف المحافظة على  البقاء، والبقاء لا يكون إلا للأقوى، وللشركات ذات المشاريع الضخمة والقوية والعالمية التي ترغب في مواجهة واستغلال الفرص في الأسواق الأخرى، أما الشركات التي لا ترغب في العولمة ولا تملك القدرة على مواجهة التحديات  واستغلال الفرص، فسيتم ابتلاعها من قبل الشركات العالمية.
من هذا نجد أن العولمة هي في صالح من يملك القوة المالية، وليس في صالح الجميع، وهناك من يرى أن ما يسمى ب”العولمة” ينبغي أن يسمى “أمريكا” حيث إن الذي يسيطر على قرارات  المنظمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدولية هي الولايات المتحدة  الأمريكية؛ فصوتها هو الأعلى وما تمليه ينفذ، كما أن الثقافة الأمريكية هي الأقوى والأسرع انتشارًا في العالم من خلال السلع الاستهلاكية والثقافات والآداب والفنون والأفلام والإعلانات والنمط الأمريكي في الملبس  وانتشار الأطعمة السريعة التي أصبح انتشارها حاليًا رمزًا لانتشار النمط الأمريكي كمحلات ماكدونالد خير مثال.
وإن الشركات الأمريكية سواءً الإعلانية والتسويقية والتجارية تهيمن على التسويق  العالمي؛ فهي تصنع الأذواق والميول، وتقولب الثقافات بما يتلاءم مع  المنتجات أنماط العيش الأمريكية، حتى اللغة السائدة الآن هي اللغة الإنجليزية، وهناك توجه لاستمرار انتشارها؛ مما دفع فرنسا للحفاظ على لغتها الأم على إصدار قانون يمنع استخدام اللغة  الإنجليزية ويحافظ على لغتها الفرنسية، أما نحن هنا في مجتمعاتنا العربية فلدينا شغف بالتقليد، فها هي بعض المؤتمرات التي تنفذ في مجتمعاتنا تجعل لغة المؤتمر هي اللغة الإنجليزية لهذا أردت القول أن العولمة بانتشارها الثقافي وسلطتها الاقتصادية لا يمكن  تجنبها أو عدم الوقوع تحت تأثيراتها المختلفة.
ونحن نستفيد من العولمة العلمية وإنجازاتها الصحية والتعليمية والتقنية، ونتضرر من آثارها الثقافية والاقتصادية السيئة، ولسنا في موقع القدرة على المواجهة بالقوة نفسها التي تنفذها آليات العولمة إلا إذا كان هناك إرادة قوية لاستثمار الموارد المادية في المجتمعات الإسلامية فيما يصب في صالح العالم الإسلامي.

Scroll to Top