عبرة الموت.

عبرة الموت:
محمد عاشور صادق.

الموت أمامه تنهار كل القيم؛ المال، والجاه، والمنصب، واللذائذ؛ فهو لا يرحم شابًا لشبابه، ولا يحترم عظيمًا لعظمته، فإذا الدنيا كلها، والجبروت كله، والعظمة كلها فقاقيع في الهواء، وكأن الحياة لعبة في الهواء، أو كتابة على الماء.
وكلما كان الميت أعظم كانت العبرة به أعظم؛ فلما مات عضد الدولة البُوَيْهي، وكان ما كان، ضخامةَ ملك، وعزة جاهٍ، وهو الذي لُقب بشاهنشاه ولي المملكة وقد استولى الخراب عليها فغمَّرها، وانبثَّ فيها اللصوص والمفسدون فأمَّنها، ونظَّم المخبرين، فعنده أخبار العالم الإسلامي في سرعة البرق، ورتَّب الجواسيس حتى خاف الرجل امرأته، والسيد خادمه، وهو شديد لا يلين، وقاسٍ لا يرحم، ما أكثر من قتل، وشرَّد لسبب يستوجب ولغير سبب، حتى رووا عنه أنه أولِعَ بجارية شغلته بجمالها وحسن حديثها عن بعض شؤون الملك، فأغرقها حتى لا يعود لمثلها، وزهت له الدنيا فاغتر بها، ووصف نفسه في شعره بأنه مالك الأملاك، غلاب القدر، وكان في ملكه كِرْمان، وفارس، وعمان، والعراق، والموصل، وديار بكر، وحرَّان، ومنبج، خضعت له، وخافت منه، واستكانت له، وفزع منه الصغير والكبير، ثم ماذا؟
أصابه المرض وهو في السابعة والأربعين، فأذل نفسه، وأحقر شأنه، واستُدعي له مهرة الأطباء، فعجزوا عجزه، وذلُّوا ذلَّه.
ثم جعل يقول: (ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه) إلى أن مات.
راعَ هذا المنظر عقول الناس، بناء شامخ سقط في لحظة، وقوة هائلة تحطمت في لمحة، واعتداد بالنفس ذهب مع الريح، ووقف القدر يسخر ممن زعم أنه غلاَّب القَدَر.
وكان أبو سليمان المنطقي رأس الفلاسفة في بغداد، وبيته ندوة كل من تفلسف، يسألونه فيما أبهم عليهم، ويستفتونه في أعقد المسائل؛ فيجيب إجابة تدل على علم واسع، وعقل ناضج؛ فاجتمع عنده طائفة منهم يوم مات عضد الدولة، واقترح عليهم أن يقولوا فيه كما قال تلاميذ أرسطو في الإسكندر.
وبدأ أبو سليمان فقال: لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها، وأعطاها فوق قيمتها، وحسبك أنه طلب الربح فيها فخسر روحه.
وقال ثان: من استيقظ للدنيا فهذا نومه، ومن حلم بها فهذا انتباهه.
وقال ثالث: ما رأيت غافلاً في غفلته، ولا عاقلاً في عقله مثله، لقد كان ينقض جانبًا وهو يظن أنه مبرِم، ويغرم وهو يظن أنه غانم.
وقال رابع: أما إنه لو كان معتبرًا في حياته لما كان عبرة في مماته.
وقال خامس: الصاعد في درجاتها إلى سفال، والنازل من درجاتها إلى معال.
وقال سادس: من جد للدنيا هزلت به، ومن هزل راغبًا عنها جدت له، انظر إليه كيف انتهى أمره، ووضع شأنه، وإني لأظن أن فلانًا الفقير الزاهد الذي مات بالأمس أعز ظهيرًا من هذا الذي ترك الدنيا شاغرة، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة.
وقال سابع: إن ماءً أطفأ هذه النار لعظيم، وإن ريحًا زعزعت هذا الركن لعصوف.
وقال ثامن: كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك، وهلا اتخذت دونه جُنَّة تقيك؟ ماذا صنعت بأموالك والعبيد، ورجالك والجنود؟ من أين أُتيت وكنت قويًا صارمًا؟ إن فيك لعبرة للمعتبرين، وآية للمستبصرين.
إن كان هذا، ففيم غرور المعتز، وطمع الطامع، وسطوة الظالم، وطغيان المستبد، وخيلاء المعجب؟
ورحم الله الحسن البصري إذ يقول: “ما أكثر المعتبَرَ وأقل المعتبِر”.

Scroll to Top