أعمارنا الحقيقية   

 

د. عامر الهوشان.         

 

سؤال قد يبدو للوهلة الأولى غريبًا وغامضًا وغير مفهوم بعض الشيء؛ لكنه عند التدقيق والتمحيص يبدو في غاية الوضوح والعقلانية والمنطقية، فعمر الإنسان على سطح هذه الأرض لا يمكن أن يُقاس بمرور الدقائق والساعات والأعوام أو كما يحلو للمختصين تسميته “العمر الزمني” فحسب، بل بما قدمه لنفسه، ولأهله، ولدينه، ومجتمعه، بما يعود عليهم بالنفع والفائدة، وبما يعود عليه بالأجر والمثوبة غدًا يوم القيامة.

وإذا كان بعض العلماء يهتمون بما يُسمى “العمر البيولوجي” للإنسان، والذي يرتبط بصورة مباشرة بعمر خلاياه، ومدى صحتها حتى يبدو من بلغ الستين من عمره -مثلاً- وكأنه في الأربعين نظرًا للصحة والعافية التي ما زالت تتحلى بها خلاياه في حين قد يبدو ابن الثلاثين وكأنه قد شارف الأربعين بسبب خلل في تلك الخلايا ….. فإن مقصود المقال هو التعرف على أعمارنا الحقيقية من حيث الإنجازات لا من حيث العمر البيولوجي أو الزمني.

كثيرًا ما كنتُ أتعجبُ من غزارة مؤلفات علماء السلف الصالح من هذه الأمة، والتي لا يمكن لعلوم العقل ودقة حسابات الرياضيات أن تخضعها لمقاييسها الرقمية إذ إن مجموع ساعات حياتهم لا يمكن أن يقبل القسمة على غزارة ما أنجزوه على المستوى الشخصي الروحي التعبدي أو على المستوى العلمي المعرفي.

والحقيقة أن النماذج والأمثلة على طول أعمال هؤلاء الأفذاذ والأعلام من حيث الإنجازات والأعمال العظيمة مقارنةً بأعمارهم الزمنية القصيرة لا يمكن حصرها أو استقصاؤها في هذا المقال فهي من الكثرة ليس لها مكان.

ويكفي ذكر نموذج واحد من تلك النماذج الفريدة لإدراك مدى قصر أعمارنا الحقيقية؛ فقد عاش الإمام النووي (46 سنة) فقط، وعلى الرغم من قصر المدة الزمنية التي عاشها فقد ترك من المؤلفات ما لو قُسّم على سنين حياته كلها لكان نصيب كل يوم كراستين -حوالي 40 صفحة تقريبا- فإذا علمنا أنه لم يبدأ طلب العلم إلا في سن (18 سنة)، فإن ذلك مما يزيد القارئ دهشة وتعجبًا من هذا الإنجاز والإنتاج الغزير في هذا العمر الزمني القصير  !!

وفي مقابل إنجازات الإمام النووي -وأمثاله من سلفنا الصالح- رغم أعمارهم الزمنية القصيرة، يمكن ملاحظة غفلة الكثير من المسلمين اليوم عن حقيقة أعمارهم الحقيقية؛ فلا تكاد تجد لأحدهم – وقد عاش زمنيًا أربعين أو خمسين عامًا أو أكثر- إنجازًا أو عملاً مميزًا على أي صعيد من الأصعدة، فيغدو رغم عمره الطويل زمنيًا لا عمر له بمقياس العمل والإنتاج والإنجاز، وكأنه لم يأتِ إلى هذه الحياة أو لم يكن له وجود فيها.

لقد كان القرآن الكريم والسنة النبوية في غاية الوضوح تجاه هذه الحقيقة؛ فقد أكد البيان الإلهي في أكثر من آية أن نعمة الحياة التي وهبها الله تعالى للإنسان لا يمكن أن تتصور دون عمل أو إنجاز قال تعالى: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) القيامة: 36َ وقال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون: 115.

وفي سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة ما يزيد هذه الحقيقة وضوحًا وبيانًا ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ) سنن الترمذي برقم 2417.

وإذا انتقلنا إلى سيرة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسنجد في حياة كثير منهم تجسيدًا لهذه الحقيقة فقد عاش سعد بن معاذ -رضي الله عنه- ست سنوات فقط في ظل الإسلام حيث أسلم وعمره 31 وتوفي وهو في 37 من عمره، ورغم قصر حياته في ظل الإسلام إلا أنها كانت كافية لملئها بالأعمال والإنجازات العظيمة التي جعل من سعد بن معاذ علمًا من أعلام الصحابة الكرام، ويكفي هذا الصحابي الجليل شرفًا أن يهتز عرش الرحمن لموته كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن يشيعه سبعون ألف ملك لم يطؤوا الأرض قبل يوم تشييعه، وأن تُفتح لوفاته أبواب السماء ….إلخ.

إذاً فحياة الإنسان الحقيقية مرهونة بقيمة ما يقوم خلالها من أعمال، وتُقاس بما ينتج فيها من إنجازات؛ فإذا ما صاحب هذه الأعمال، وتلك الإنجازات الإيمان بالله تعالى وحده والإخلاص له سبحانه فهو الفوز العظيم، والفلاح المبين؛ كونها لم تنفع البشرية فحسب بل عادت بالنفع والفائدة على صاحبها حين يقف وحيدًا فريدًا أمام رب العباد للحساب.

دخلت يومًا بصحبة بعض الأخيار على عالم من علماء الشام قد أرهقه المرض، وأقعده عن مواصلة إلقاء دروسه المنتشرة في أكثر من مسجد من مساجد عاصمة الأمويين دمشق، فسأله أحد الحاضرين عن أهم المحطات في حياته الطويلة زمنيًا فأجاب: طلب العلم وتحصيله، ومن ثم تعليم الناس والدعوة إلى الله، لقد اعتبر الرجل أن عمره الحقيقي مختزل في تلك الساعات التي قضاها في طلب العلم، ومن ثم في تعليم المسلمين أمور دينهم، ولم يذكر شيئًا آخر سوى ذلك لعلمه أن الحياة عقيدة وعمل، ولا قيمة لما وراء ذلك إلا بما يخدم هاذين الأمرين.

فهل يمكن أن يخلو كل واحد منا بنفسه ليتعرف على عمره الحقيقي!

Scroll to Top