من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربوية.

من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربوية:
محمد الدويش.

1- التربية بالقصة:
إن القصة أمر محبب للناس، وتترك أثرها في النفوس، ومن هنا جاءت القصة كثيرًا في القرآن، وأخبر تبارك وتعالى عن شأن كتابه فقال: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا  إليك هذا القرآن) (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثًا يفترى)، وأمر نبيه صلى  الله عليه وسلم بذلك فقال: (واقصص القصص لعلهم يتفكرون)؛ ولهذا فقد سلك النبي صلى  الله عليه وسلم هذا المنهج واستخدم هذا الأسلوب، فشاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو خباب بن الأرت رضي الله عنه- يبلغ به  الأذى والشدة كل مبلغ فيأتي للنبي -صلى الله عليه وسلم- شاكيًا له ما أصابه فيقول رضي  الله عنه: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -وقد  لقينا من المشركين شدة- فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله  هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله) “رواه  البخاري (3852”.
وحفِظَت لنا السنة النبوية العديد من المواقف التي يحكي فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- قصة من القصص، فمن ذلك: قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وقصة الذي قتل مائة  نفس، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع، وقصة أصحاب الأخدود …وغيرها كثير.
2- التربية بالموعظة:
للموعظة أثرها البالغ في النفوس؛ لذا لم يكن المربي الأول صاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله فقد كان كما وصفه أحد أصحابه وهو ابن مسعود -رضي الله  عنه- (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا) “رواه البخاري 68”.
ويحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع  فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد  حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن  أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ)    “رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42)”، وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولاً، وألا تكون بصفة دائمة؛ فعن أبي وائل قال كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن  لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم  بالموعظة كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. “رواه  البخاري (70) ومسلم (2821)”.
3- الجمع بين الترغيب والترهيب:
النفس البشرية فيها إقبال وإدبار، وفيها شرّة وفترة، ومن ثم كان المنهج التربوي الإسلامي  يتعامل مع هذه النفس بكل هذه الاعتبارات، ومن ذلك الجمع بين الترغيب والترهيب،  والرجاء والخوف؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة ما سمعت مثلها قط: (قال لو  تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) قال: فغطى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوههم لهم خنين “رواه البخاري  (4621) ومسلم”.
ومن أحاديث الرجاء والترغيب ما حدث به أبو ذر -رضي الله عنه- قال أتيت النبي -صلى الله  عليه وسلم- وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق) قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: (وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر) وكان أبو  ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر “رواه البخاري (5827) ومسلم (94)”، وعن  هريرة -رضي الله عنه- قال كنا قعودًا حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابًا فلم أجد،  فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز  الثعلب فدخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: (ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: (يا أبا هريرة) وأعطاني نعليه- قال: (اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشِّره  بالجنة) الحديث “رواه مسلم (31)”، والمتأمل في الواقع يلحظ أننا كثيرًا ما نعتني بالترهيب ونركز عليه، وهو أمر مطلوب والنفوس تحتاج إليه، لكن لا بد أن يضاف لذلك الترغيب، من خلال الترغيب في نعيم الجنة وثوابها، وسعادة الدنيا لمن استقام على طاعة الله، وذكر محاسن الإسلام وأثر  تطبيقه على الناس، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المسلك فقال تعالى: (ولو أن أهل القرى) (ولو أنهم أقاموا التوراة).
4- الإقناع العقلي:
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إن فتى شابًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنى، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: (ادنه)  فدنا منه قريبًا قال: فجلس قال: (أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال:(ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: (أفتحبه لابنتك؟ قال: لا  والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم) قال: (أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم) قال: (أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم) قال: (أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء “رواه أحمد”، فإن هذا الشاب قد جاء والغريزة تتوقد في نفسه؛ مما يدفعه إلى أن يكسر حاجز الحياء،  ويخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- علنًا أمام أصحابه، وأدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- المربي المعلم لديه جانبًا لم يدركه فيه أصحابه فما هو؟ لقد  جاء هذا الشاب يستأذن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كان قليل الورع عديم الديانة لم يرَ أنه بحاجة للاستئذان بل كان يمارس ما يريد سرًا، فأدرك -صلى الله عليه وسلم- هذا الجانب الخيّر فيه، فما ذا كانت النتيجة: (فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء).
5- استخدام الحوار والنقاش:
وخير مثال على ذلك موقفه -صلى الله عليه وسلم- مع الأنصار في غزوة حنين بعد قسمته للغنائم، فقد أعطى -صلى الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، فبلغه أنهم وجدوا في  أنفسهم، فدعاهم -صلى الله عليه وسلم- وكان بينهم وبينه هذا الحوار الذي يرويه عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- فيقول: لما أفاء الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: (يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟ كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله آمن، قال: (ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله آمن قال: (لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟ لولا  الهجرة لكنت امرأًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) “رواه البخاري (4330) ومسلم (1061)”، ففي هذا الموقف استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الحوار معهم، فوجه لهم سؤالاً وانتظر منهم الإجابة، بل حين لم يجيبوا  لقنهم الإجابة قائلاً: (ولو شئتم لقلتم ولصدقتم وصُدقتم).
6- الإغلاظ والعقوبة:
وقد يُغلظ -صلى الله عليه وسلم- على من وقع في خطأ أو يعاقبه؛ فعن  أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في موعظة أشد غضبًا من يومئذ فقال: (أيها الناس إنكم منفرون فمن صلّى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا  الحاجة) “رواه البخاري (90)  ومسلم (466)”، وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأله رجل عن اللقطة فقال: (اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها وعفاصها- ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه) قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه -أو قال احمر وجهه-  فقال: (وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها) قال: فضالة الغنم؟ قال: (لك أو لأخيك أو للذئب) “رواه البخاري (90) ومسلم (1722)”، وقد  بوب البخاري -رحمه الله- في صحيحه على هاذين الحديثين “باب الغضب في الموعظة  والتعليم إذا رأى ما يكره”، وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده) فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. “رواه مسلم (2090)”، وعن  سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلاً أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال (كل بيمينك) قال: لا أستطيع، قال: (لا استطعت ما منعه إلا الكبر) قال، فما رفعها إلى فيه. “رواه مسلم  (2021)”.
إلا أن ذلك لم يكن هديه الراتب -صلى الله عليه وسلم- فقد كان الرفق هو الهدي الراتب له  -صلى الله عليه وسلم- لكن حين يقتضي المقام الإغلاظ يغلظ -صلى الله عليه وسلم- ومن الأدلة على ذلك:
أ- أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالرفق واللين أو بما يؤدي إلى ذلك قال تعالى: (فبما  رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك)، فوصفه  باللين، وقال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم  بالمؤمنين رؤوف رحيم)، ولا أدلّ على وصفه عليه الصلاة والسلام من وصف الله له؛ فهو العليم به سبحانه.

– وصف أصحابه له: فقد وصفه معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- بقوله: “فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني”، “رواه مسلم (537)”.
ج- أمره -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالرفق فهو القدوة في ذلك وهو الذي نزل عليه (لِمَ تقولون ما لا تفعلون)؛ فهو أقرب الناس إلى تطبيقه وامتثاله، وحينما أرسل معاذًا وأبا موسى إلى اليمن قال لهما: (يسرا  ولا تعسرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا) “رواه البخاري (3038) ومسلم (1733)”.
د- ثناؤه -صلى الله عليه وسلم- على الرفق، ومن ذلك في قوله: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) “رواه  البخاري (6024) ومسلم (2165)”، وفي رواية: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه) “رواه مسلم (2593)”، وفي حديث جرير -رضي الله عنه- (من يحرم الرفق يحرم الخير) “رواه مسلم (2592)”، (ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
– سيرته العملية في التعامل مع أصحابه؛ فقد كان متمثلاً الرفق في كل شيء ومن ذلك:
– قصة الأعرابي الذي بال في المسجد والقصة مشهورة.
– قصة  عباد بن شرحبيل -رضي الله عنه- يرويها فيقول: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة، فأتيت حائطًا من حيطانها فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب  الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال للرجل: (ما  أطعمته إذ كان جائعًا -أو ساغبًا- ولا علمته إذ كان جاهلاً) فأمره النبي -صلى الله عليه  وسلم- فردّ إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وس. “رواه أحمد (16067) وأبو داود (2620) وابن ماجه (2298)”.
– قصة سلمة بن صخر الأنصاري -رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً قد أوتيتُ من جماع النساء ما لم يؤتَ غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقًا من أن أصيب منها في  ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري  فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بأمري فقالوا: لا والله  لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالة  يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال: فخرجت فأتيت رسول الله -صلى  الله عليه وسلم- فأخبرته خبري فقال: (أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: (أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، قال: (أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك، وها أنا ذا فأمضِ في حكم الله فإني صابر لذلك، قال: (أعتق رقبة) قال: فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال: (صم شهرين) قلت: يا رسول الله، وهل  أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال: (فأطعِم ستين مسكينًا) قلت: والذي بعثك بالحق  لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له  فليدفعها إليك، فأطعِم عنك منها وسقًا ستين مسكينًا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك) قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إلي. “رواه أحمد (23188)  وأبو داود (2213) والترمذي، وابن ماجه (2062”.
7-  الهجر:
واستعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أسلوب الهجر في موقف مشهور في السيرة، حين تخلف كعب بن مالك -رضي الله عنه- وأصحابه عن غزوة تبوك، فهجرهم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لا يكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله تبارك وتعالى عليهم.
إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هديًا دائمًا له -صلى الله عليه وسلم- والمناط في ذلك هو تحقيقه للمصلحة، فمتى كان الهجر مصلحة وردع للمهجور شرع ذلك، وإن كان فيه مفسدة وصدّ له حُرِّم هجره.
8- استخدام التوجيه غير المباشر:
ويتمثل التوجيه  غير المباشر في أمور منها:
أ- كونه -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما بال أقوام)، دون أن يخصص أحدًا بعينه، ومن ذلك قوله في  قصة بريرة فعن عائشة -رضي الله عنها- فقالت أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله -صلى اللهم عليه وسلم- ذكرته ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق)، ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في  كتاب الله من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط) “رواه  البخاري (2735) ومسلم”، وحديث أنس -رضي الله عنه- أن نفرًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل  اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) “رواه البخاري  (1401)”.
ب- وأحيانًا يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى رؤيًا قصها على النبي -صلى الله عليه وسلم- فتمنيت أن أرى رؤيًا أقصها على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكنت غلامًا أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأيت في المنام كأن ملكَين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن  تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (نعم الرجل  عبد الله لو كان يصلي بالليل) قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. “رواه البخاري  (3738-3739”.
ج- وأحيانًا يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك أن رجلاً دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه أثر صفرة وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قلّما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه فلما خرج قال: (لو أمرتم هذا أن يغسل هذا  عنه) “رواه أبو داود (4182)”.
د- وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه  فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال:إني لست بمجنون). “رواه البخاري (6115) ومسلم (2610)”.
9- استثمار المواقف والفرص:
عن  أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مع أصحابه يومًا وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته ضمته فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار) قالوا: لا، قال: (والله لا يلقي حبيبه في النار) “رواه البخاري (5999) ومسلم  (2754)”؛ فلا  يستوي أثر المعاني حين تربط بصور محسوسة، مع عرضها في صورة مجردة  جافة، وإن المواقف تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقف يقع التعليم موقعه  المناسب، ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة في الذاكرة، تستعصي على النسيان، والمواقف متنوعة:
أ- فقد يكون الموقف موقف حزن وخوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عند القبر؛ فعن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: (استعيذوا  بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثًا) ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر. “رواه ابو داوود  (4753)”.
ب- وقد يكون موقف مصيبة إذا حلّ أمرٌ بالإنسان، فيستثمر ذلك في ربطه بالله تبارك وتعالى؛ فعن  زيد بن أرقم قال أصابني رمد فعادني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فلما برأت خرجت،  قال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت  صانعًا) قال: قلت: لو كانتا عيناي لما بهما صبرت واحتسبت، قال: (لو كانت عيناك لما بهما ثم صبرت واحتسبت للقيت الله عز وجل ولا ذنب لك) “رواه أحمد”، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخدم مثل هذا الموقف لتقرير قضية مهمة لها شأنها  وأثرها كما فعل حين دعائه للمريض بهذا الدعاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا جاء الرجل يعود مريضًا قال:  اللهم اشفِ عبدك ينكأ لك عدوًا ويمشي لك إلى الصلاة) “رواه أحمد  (6564)”، فإنه  يوصي المسلم بعظم مهمته وشأنه وعلو دوره في الحياة، فهو بين أن يتقدم بعبادة خالصة لله، أو يساهم في نصرة دين الله.
ج- وقد يكون الموقف ظاهرة كونية مجردة، لكنه -صلى الله عليه وسلم- يستثمره ليربطه بهذا  المعنى عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها  فافعلوا) ثم قرأ، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) “رواه  البخاري (554) ومسلم”.
د- وقد يكون الموقف مثيرًا، يستثير العاطفة والمشاعر كما في حديث أنس السابق في قصة المرأة.
10- التشجيع والثناء:
سأله أبو هريرة  -رضي الله عنه- يومًا: من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال صلى الله عليه  وسلم: (لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث) “رواه البخاري (99 )”، فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي هريرة وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ صلى الله عليه وسلم، بحرصه على العلم، بل  وتفوقه على الكثير من أقرانه، وتصوّر كيف يكون أثر هذا الشعور دافعًا لمزيد من الحرص  والاجتهاد والعناية.
وحين سأل أُبيّ بن كعب: (أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقال أبي: “آية الكرسي”، قال له صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر)، “رواه مسلم (810 وأحمد (5/142)”؛ فإن الأمر قد لا يعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد، والنفس أيًا كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز، ويدفعها  ثناء الناس -المنضبط- خطوات أكثر، والتشجيع  والثناء حث للآخرين، ودعوة غير مباشرة لهم بأن يسلكوا هذا الرجل الذي توجه الثناء  له.
Scroll to Top