التربية النبوية بالأخلاق.

التربية النبوية بالأخلاق: 
د. محمد أمحزون.

التربية بالأخلاق في الفترة المكية:
كانت للعرب في الجاهلية أخلاق أهلتهم لحمل الرسالة إلا أنها كانت كثيرًا ما تتجاوز حدها الطبيعي، وقد جاء الإسلام فزكى هذه الأخلاق ونقاها من الأخلاق الرديئة. ونستطيع أن نقول: إن النبي تأيّد في الأخلاق بلون من الإعجاز، تمثل ذلك  في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (1) .
وقد احتوى القرآن الكريم في التربية الأخلاقية على حقيقتين هما: النفي والإثبات، النفي لما تعلق من رواسب الجاهلية، وتثبيت أركان البناء الخلقي.
ومن النماذج الفريدة في ذلك: موقف العباس بن عبد المطلب عم الرسول حين كان على دين قومه وحضر معه بيعة العقبة الثانية ليتوثق له، ويتثبت له في هذا الأمر، وقال: “يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه أبى إلا الانحياز إليكم واللحاق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍّ ومنعة من قومه وبلده”.
ومن ذلك موقف عثمان بن أبي طلحة عندما رأى أم سلمة تريد الهجرة وحيدة للمدينة، حيث منعت أول الأمر من الهجرة مع زوجها، فقال لها: والله ما لك من مترك؛ فأخذ بخطام البعير، تقول: فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني … إلى أن قالت: فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
ومن ذلك خلق الجوار الذي استفاد منه المسلمون وهم مستضعفون في مكة؛ كجوار النجاشي، وجوار المطعم بن عديّ للنبي بعد عودته من الطائف، ودخول أبي بكر في جوار ابن الدُّغنة؛ ولهذا يجوز للمسلمين الدخول في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة سواء كان المجير كتابيًا كالنجاشي أو مشركًا كأبي طالب، وقد يكون الجوار في عصرنا على شكل بلاد مفتوحة أمام المهاجرين، كما عرف في مصطلح الدبلوماسية المعاصرة بحق اللجوء السياسي.
ويمكن القول: إن المنهج الأخلاقي قد استكمل بناؤه في نفوس المسلمين في المرحلة المكية من جهة بتوجيه القرآن الكريم، ومن جهة أنها تجلت في شخص الرسول، ومن جهة أن بعض الأخلاق الحميدة كانت متأصلة في نفوس العرب منذ الجاهلية، وقد لعبت دورًا إيجابيًا لمصلحة المناداة لدين الإسلام في مرحلة الاستضعاف.
إذن، فهما جهادان: جهاد داخل النفس لإصلاحها، وجهاد خارج النفس لإصلاح المحيط من حولها. غير أن جهاد النفس كان توطئة وإعدادًا للمواجهة الخارج، وهذه المواجهة مفروضة على المؤمنين؛ لأنها في حقيقتها معركة عقيدة وسُنَّة ربانية لا محيص عنها.
التربية بالأخلاق في الفترة المدنية:
التربية بالأخلاق في الإسلام أولها: الشجاعة، فقد وجد الصحابة في رسول الله المثال الذي يحتذى، فكان أشجعهم، يسبقهم حين الفزع، ويثبت حين ينكشف المسلمون، بل يلوذ به شجعان الصحابة، وفي تأمل مواقف أبي دجانة وأنس بن النضر وعلي بن أبي طالب وقادة مؤتة الثلاثة ما يستوقف القارئ عجبًا، على أن الشجاعة ليست إقدامًا وجرأة في القتال وحسب، بل هناك أوصاف تتفرع عنها كإغاثة الملهوف وحب النجدة والسماحة والصفح والمروءة.
ومن الأخلاق: الكرم، وهو موجود لدى العرب، إلا أن النبي كان له القدح المُعلَّى في ذلك فهو أجود بالخير من الريح المرسلة، ولا يرد سائلاً، وقد ضرب عثمان مثالاً عاليًا في مواقفه لنصرة المسلمين كشراء بئر رومة، وكذلك أبو طلحة الأنصاري الذي تبرع ببيرحاء، وأبو الدحداح الذي أقرض ربه حائطه، وكرم المسلمين رغم فاقتهم في تجهيز غزوة تبوك، وفي مقدمتهم عثمان.
والوفاء من أخلاق العرب الأصيلة، التي وثقها الإسلام ودعا لها، ومن أمثلته: وفاؤه يوم الحديبية لقريش حين ردَّ عليهم أبا بصير، وإعادته لمفتاح الكعبة لحاجب الكعبة عثمان بن طلحة وقال له: “اليوم يوم بر ووفاء”. ومن أمثلة الصحابة: وفاء حذيفة بن اليمان بعدم القتال مع الرسول يوم بدر؛ لأنه عاهد قريشًا ألا يشارك الرسول في القتال لما أخذوه، وقال لهم رسول الله لما سألوه: “نَفِي لهم بعهدهم”.
وخلاصة القول: إن أخلاق الصحابة كان لها أثر على الناس من الأمم الأخرى، ففتحوا القلوب كما فتحوا الآفاق.
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.

Scroll to Top