صانعة الأجيال.

صانعة الأجيال:
شائع محمد الغبيشي.

رسالة عمر، ومشروع حياة، ومستقبل جيل، وبناء أمة، الدقيقة فيها تقاس بالسنين، جوهرة منسية، لؤلؤة فارقة صدفتها فمن ذا يفتش عنها؟ الحياة في ظلالها متعة، وبذل الجهد والعرق في سبيلها سعادة، تضيف إلى عمرك مئات الأعمار لعلك قد فطنت لها، إنها مهنة التعليم، وظيفة الأنبياء، وروضة العلماء الغناء، بها يأنسون، وبين خمائلها يستروحون، فهي متعتهم ولذتهم وقرة أعينهم، إن فارقوها أصابتهم الوحشة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، تأملت وصف عطاء لشيخه سعيد بن المسيب -رحمه الله- حين قال: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟ قال: ليس أحد يسألني عن شيء.
فلماذا بكى سعيد رحمه الله؟
إن سعيدًا -رحمه الله- يبكي حرقة وحزنًا على عدم نشره للعلم، وعدم قدوم السائلين عليه؛ لأنه بذلك قد حرم أجرًا كثيرًا، إنه يستشعر عظم رسالة العالم والمربي، ويعلم أن كل وقت يخلو من عمره عن التربية والتعليم خسارة فادحة تستوجب البكاء.
قال ابن جماعة رحمه الله: واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة، من أعز الناس عليه، وأقربهم إليه؛ ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم، ومن بعدهم ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر.
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله: سبحان من ألقى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي… إذا رأيت وجه طالب صادق قد أفلح على يدي شبعت وارتويت واكتسيت وفرحت كيف خرج مثله من تحت يدي.
وقال ابن القيم رحمه الله: إن العالم إذا زرع علمه عند غيره ثم مات جرى عليه أجره وبقي له ذكره وهو عمر ثان وحياة أخرى وذلك أحق ما تنافس فيه المتنافسون ورغب فيه الراغبون.
وقال رحمه الله وهو يتكلم عن مرتبة تعليم العلماء: فيا لها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة وأوصالاً متفرقة، وصحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب. تلك والله المكارم والغنائم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها، ويسبق السابقون إليها، وتوفر عليها الأوقات، وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه.
أخي المبارك في كل يوم ينشق صبحه تلقى مئات المحتاجين من الطلاب يحتاجون إلى نصحك وعلمك وتربيتك فبدد ظلمة قلوبهم، أوقد لهم شمعة تنير لهم الطريق.
يا حامل مشعل الهداية:
قم ناشرًا للنور في الأرجاء *** قم فالظلام يطل كل مساء
كن كالصباح أتى فأشرقت الدنى *** والليل أدبر جاهشًا ببكاء
والطير غرد والبلابل أنشدت *** والورد بث شذاه في الأرجاء
النور نورك لا تحد عن نشره *** الشمس أنت توسطت بسماء
أخي المعلم تأمل هذه المعادلة لو صلح على يديك عشرة من الطلاب فعاش كل واحد منهم 60 سنة كم سيضاف إلى عمر؟ 600 عام أليس كذلك؟ فكيف لو ظفرت في كل عام بمثل هذا العدد، كم سيضاف إلى عمرك؟
أخي تخيل لو أنك رحلت عن الحياة ولك مثل هذا الرصيد هل رحلت على الحقيقة أم أنك لا زلت حيًا؟
تأمل: قال أبو حيان: الذكر الجميل قائم مقام الحياة، بل هو أفضل من الحياة؛ لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في الحي، وأثر الذكر الجميل يحصل في كل مكان، وفي كل زمان.
وقال ابن دريد:
وإنما المرءُ حديثٌ بعده… فكن حديثًا حسنًا لمن وعى
أخي المبارك لقد نجح الشيطان في زرع روح التذمر لدينا من هذه الرسالة النبيلة، وتسلل إلينا الملل والفتور؛ ليحرمنا كل هذه الخيرات، فهل نقول له اخسأ عدو الله لن تعدو قدرك؟
هل نستشعر عظم رسالتنا التربوية في الحياة؟ من تخرج من العلماء والقضاة والأطباء والمهندسين والطيارين ورجال الأمن كلهم من تحت عباءتك تخرجوا، وعلى تعليمك ترعرعوا.
يا معلم الخير تأمل هذا الحديث عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الترمذي وصححه الألباني.
أخي ألا يكفيك أنك مؤيد من الله، ألا يكفيك أن الكون كله يلهج بالاستغفار لك، فمن مثلك أيها المعلم، فتشبث بصانعة الأجيال؟

Scroll to Top