ابنتي صديقتي

سلوى المغربي.         

حينما تشتكي الأم انصراف بناتها عنها، وعدم لجوئهن إليها في حل مشكلاتهن، والبوح بأسرارهن، وحينما تشتكي البنات من وجود حاجز نفسي مانع يمنعهن عن الاقتراب النفسي من أمهن، ويضطرهن للبحث عن صديقة أو جارة أو قريبة أو ربما تلجأ إحداهن إلى كل من يفتح لها الباب، وحينما تصل العلاقة بينهما إلى طريق مسدود، لا بد لنا أن نتوجه بالخطاب للأم أولاً قبل البنت، ولا بد من إعادة النظر لإعادة صياغة طبيعة العلاقة بينهما؛ لإدراك ما فات ولإصلاح ما هو آت.
لا شك أن كل أم تنظر إلى ابنتها التي حملتها في أحشائها وولدتها ثم أرضعتها، لا شك أنها تراها دومًا كما كانت تراها قبل ذلك، تلك البنت الصغيرة التي لا تكبر أبدًا، وربما تظل تعاملها المعاملة نفسها دون أن تفطن لكونها انتقلت من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تختلف تمام الاختلاف وتحتاج لمعاملة جديدة بأسس جديدة غير تلك الأسس التي كانت تعامل ابنتها بها قبل ذلك.
فالأم تتذكر وتقارن بين تعاملها هي -بنت- مع والدتها وبين تعامل ابنتها معها، لتكتشف ذلك الفرق الهائل في القرب والتفاهم ومساحات الحوار وكمية الأسرار التي أودعتها لأمها في حين تنظر إلى ابنتها التي لا تكاد تعرف شيئًا من أسرارها ولا تستطيع أن تكمل معها حوارًا في اليوم إلا بصيغة واحدة من كليهما تتكرر دومًا .. أوامر من الأم واعتراض وتبرم من البنت .. وبعد ذلك كلاهما يشتكي من الآخر.
وربما نسيت الأم أو لم تنتبه أن ذلك التفاهم والانسجام بينها وبين ابها لم يأتِ خطوته الأولى منها بصفتها ابنتها، بل كانت الخطوة الأولى من الأم التي استطاعت أن تنال ثقة ابنتها، وانتزعت منها تلك المرتبة العالية التي تبدأ خطواتها الأولى من الأم ثم بعدها تبادلها البنت مِثلاً بمِثل، وهذا الذي يجب أن تستوعبه الأم لتدرك أن حاجة ابنتها إليها في ذلك الوقت أكثر بكثير من حاجتها هي لابنتها، وأن البنت تنتظر اللحظة التي تفتح فيها الأم الباب لكي ترتمي في أحضانها وتبوح بأسرارها لأمها وتستنير برأيها بعد أن تتحقق تلك الأمنية الغالية والمعادلة الصعبة .. أن تكون أمها صديقتها.
يواجه الأمهات مشاكلُ عديدة في هذه المرحلة من حياة ابنتها نظرًا لتضارب أفكار البنت وعدم النضج لملامح شخصيتها ولطبيعة العصر الذي نعيش فيه المليء بالمتغيرات والتحولات، ولطبيعة مرحلة المراهقة التي تحتم الاختلاف بينهما فتشعر البنت دائمًا بالاضطراب وعدم وضوح الرؤية بالنسبة لها وغالبًا ما تعاني من عدم القدرة التامة على اتخاذ قراراتها بنفسها وتحمل مسؤولية نتائج تلك القرارات لأنها في تلك اللحظة غير مكتملة المشاعر والفكر والذهن، ويتضح ذلك جليًا في تفسيرات علماء النفس لمعنى المراهقة ذاته.
ولا تتصور أي أم أن الأمر سهل ويسير، فأمر التربية عامة من أعظم الأمور وأشدها فما أيسر الحديث النظري وما أصعب ممارسته على الواقع الحياتي ويعبر عن ذلك الأستاذ محمد قطب في كتابه “منهج التربية الإسلامية” فيقول: “من السهل تأليف كتاب في التربية، ومن السهل تخيل منهج، ولكن هذا المنهج يظل حبرًا على ورق ما لم يتحول إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض، وما لم يتحول إلى بشر يترجم بسلوكه وتصرفاته ومشاعره وأفكاره مبادئ المنهج ومعانيه عندئذ فقط يتحول إلى حركة ويتحول إلى حقيقة”.
إن أول وأهم الأخطاء التي تتسبب في ابتعاد الأم عن ابنتها يكمن في استمرار الأم في الممارسات نفسها التي كانت تمارسها مع ابنتها وهي طفلة لا تعقل، ويمكن أن نتناول بعضًا من تلك الممارسات الخاطئة ولكل أم أن تنظر إلى أفعالها وتتدبر فيها وتتدارك بنفسها أخطاءها مع ابنتها فمنها:
– عندما تخطئ الفتاة أمام جمع مثل الأقارب أو الأصدقاء والجيران فقد تمطرها الأم بوابل من التوبيخ والإهانة والتسفيه لعملها ولعقلها وربما تزيد الخطأ بأن تستغل الفرصة في ترديد سجل أخطاء ابنتها وتحقر من شأنها، وهذا الفعل الذي تراه الأم صغيرًا ولا تلتفت له ربما يترك أثرًا سلبيًا خطيرًا بل قد يحدث شرخًا في العلاقة بينهما.
في حين أنه من الممكن أن تعالج الأم بلباقتها وحسن إدارتها للأمر بطريقة لطيفة تربوية سليمة مع ابنتها فيمكنها الهمس إليها -دون إشعار أحد بذلك- بأن هذا التصرف لا يليق منك أو الأفضل أن تؤجل نصحها إلى أن تختلي بها بعيدًا عن الجميع وتعلمها بصواب ما أخطأت فيه حتى لا تسبب لها إهانة وتحفظ لها كرامتها ولتقوي شخصيتها ولتدعمها نفسيًا.
– الشكوى المستمرة من تصرفات البنت لأبيها بداع وبدون داع في كل الأمور، وتهديدها الدائم بذلك، ويكتمل الخطأ إذا قام الأب باستمرار باتخاذ وسيلة واحدة معها بتعنيفها أو إيذائها بدنيًا أو نفسيًا فتشعر البنت أن أمها ليست سترًا عليها ولن تحفظ لها سرًا وأنها سوف تستعدي عليها كل من يهينها إذا باحت بسر لها أو بخطأ ارتكبته وتقرر بعد ذلك أن تخفي ما تستطيع من أسرارها عن أمها حفاظًا على صورتها أمام أهلها حيث تتجمل أمامهم بما يرضيهم وتجتهد أن تغطي عيوبها ومشكلاتها عن أعين أهلها.
ولتفادي وقوع أزمة الثقة تلك فعلى الأم أن تكون قريبة من ابنتها، وتسمع لها وتسعى جاهدة لحل مشاكلها، وطمأنتها بأن الخطأ وارد من كل البشر، والتوضيح لها أن محاولة إخفاء الخطأ والابتعاد عن الأهل أشد من الوقوع في الخطأ نفسه كي تعتاد الصراحة والوضوح مع أمها، وإذا لزم الأمر لإخبار الأب فيكون باتفاق الأم والبنت على عرض الأمر على الأب من منطلق طلب المشورة والرأي السديد وليس بمنطلق الشكوى والعنف والقسوة وهذا لا يمنع من بوح الزوجة لزوجها بكل أسرار ابنتها دون أن تعلم البنت بذلك ودون أن يظهر الأب لابنته بمعرفته حتى لا تفقد الثقة في أمها وحتى تستمر في بوحها لأسرارها مع أمها.
– محاصرة البنت في كل شيء وكثرة الأسئلة في التفاصيل التي لا تترك مجالاً للبنت للحركة، والتجسس عليها ووضع كل تصرفاتها وعلاقاتها تحت دائرة الاتهام والشك، بحيث يصلها الإحساس الدائم بعدم ثقة الأم فيها وربما يدفعها ذلك إلى التفلت بحثًا عن الشعور بالحرية وقد يوصلها هذا الخوف المرضي والقلق المبالغ فيه من الأم إلى فعل الخطأ لا حبًا فيه ولكن لإثبات القدرة عليه مع وجود تلك الأسوار.
ولتفادي ذلك راقبي ابنتك عن بعد بحيث تظن أنك غافلة عنها في حين أنك قريبة منها متيقظة لما يحدث معها، وتابعيها دون إشعارها مع دعمك لها بإعطائها الثقة في تصرفاتها والثناء على أفعالها والاقتراب منها حتى يمكنك التدخل في أي وقت وبأسرع مما تتخيل.
هذا بالتحديد أقصى ما تحلم به وتريده ابنتك أن ترى منك أمًا وصديقة، فهذا دورك وقمة نجاحك في تربية ابنتك، فساعديها لأنها تريد أن تشعر بكيانها وذاتها وشخصيتها وتريد أن تجد قيمة لأفكارها ولآرائها، وأنها في أي قرار تتخذه تريد أن تشعر أنها هي التي فكرت وحددت وقررت وأنها كبرت عن المرحلة التي كانت تفعل كل شيء بأوامر تملى عليها من والديها.

المصدر: موقع المسلم.

 

 

Scroll to Top