فضل القرآن الكريم وآداب تلاوته.

فضل القرآن الكريم وآداب تلاوته:

أ. حصة الحناكي.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن القرآن الكريم كتاب دين، وهداية أنزله الله سبحانه وتعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم للناس كافة، يخاطب فيه عقل الإنسان ووجدانه، ويعلمه عقيدة التوحيد، ويزكيه بالعبادات، ويهديه إلى ما فيه خيره وصلاحه في حياته الفردية والاجتماعية، ويرشده إلى الطريق الأمثل حتى يحقق لنفسه السعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُون) الجاثية: 20، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين) يونس: 57، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين) النحل: 80، وقد عُني القرآن الكريم عناية كبيرة بحثّ الناس على التعلم وتحصيل العلم، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم) العلق: 1-5، وقد أشار القرآن الكريم إلى فضل العلم، وكرّم العلماء، ورفع شأنهم، ووضع العلم في مرتبة عالية، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة: 11.

ومن أدلة تكريم الله تعالى للعلم وإشادته بفضله أنه جلّ شأنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من العلم في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه: 114؛ فالعلم والحكمة نعمتان من نعم الله العظيمة على الإنسان، يخص بهما من يشاء من عباده المؤمنين الصالحين، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقرة: 269.

والقرآن الكريم كلام الله تعالى من أعظم العلم الذي ينبغي أن تنفق عليه الأوقات، والجهود؛ فإن كل جهد يبذل في تلاوته أو حفظه، أو تعلمه، أو العمل به عبادة ينال فاعلها من الله الثواب الجزيل، روى الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، وعليه فإن تلاوة القرآن عبادة مشروعة حتى أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء منه، وخاصة أم الكتاب “الفاتحة”، قال الله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) المزمل: 20.

صفات القرآن في القرآن:

1- القرآن الكريم هدى للمتقين، وهدى للعالمين يهديهم إلى الصراط المستقيم، قال تعالى: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِين) البقرة: 1-2.

2- القرآن الكريم شفاء ورحمة، شفاء للقلوب والأبدان، ورحمة للمؤمنين في الدنيا؛ لأنه يهبهم السكينة والطمأنينة، ويهديهم إلى سواء السبيل، أما في الآخرة فيكون نصيرهم، والمدافع عنهم في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء: 82.

3- القرآن الكريم أخرج هذه الأمة من الظلمات إلى النور، من ظلمات العبودية والتفرقة والجهل إلى نور الوحدانية، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) المائدة: 15-16.

4- القرآن الكريم ذكرٌ يعرّف الناس حقيقة الدنيا، ويهبهم فيها الأمان والاطمئنان، ويذكرهم بالآخرة، ويؤكد لهم بأنها دار المقام، قال تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ) الرعد: 28-29، ومن يعرض عن هذا الذكر فإن له معيشة ضنكًا في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) طه: 124-126.

5- القرآن العظيم وقاية من شياطين الإنس والجن، قال تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا) الإسراء: 44، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الزخرف: 36.

منزلة أهل القرآن:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر)، “رواه البخاري ومسلم”، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علّمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل) “رواه البخاري”، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين) “رواه مسلم”، ونظرًا لما لأهل القرآن من منزلة عظيمة في الدنيا والآخرة فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكرامهم؛ لذا عرف سلفنا الصالح رضوان الله عليهم منزلة من يحفظ القرآن العظيم، ويعمل به، فجعلوا القرآن ربيع قلوبهم، وورد عبادتهم، وتدبرت به نفوسهم؛ فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حملة القرآن الكريم (أهل الله وخاصته) “رواه أحمد والنسائي”،  عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها) “رواه أبو داود والترمذي”، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، يحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) “رواه مسلم”، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن وتعلم وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجًا من نور ضوؤه مثل الشمس ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا فيقولان بِمَ كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن) “صححه الحاكم ووافقه الذهبي”

ففي الحديث وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم سورة البقرة وآل عمران وبيّن أجر والدَي حافظ القرآن، فمن برّك بوالديك الحرص على حفظ القرآن الكريم.

آداب تلاوة القرآن الكريم:

1- إخلاص النية لله: لا بد من تحرّي الإخلاص عند تعلم القرآن وتلاوته، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) البينة: 5، قال النووي: فأول ما يؤمر به القارئ الإخلاص في قراءته، وأن يريد بها وجه الله سبحانه وتعالى.

2- العمل بالقرآن: ويكون ذلك بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والوقوف عند نهيه، والائتمار بأمره، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، وإقامة حدوده وحروفه.

3- الخشوع والبكاء في تلاوة القرآن: وصف الله القرآن الكريم بقوله: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون) الحشر: 20-21، ووصف الذين أنعم الله عليهم من النبيين بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) مريم: 58، وبقراءة القرآن تتنزل السكينة، ورد في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في مَن عنده) “رواه مسلم عن أبي هريرة”.

4- مداومة استذكار القرآن وتعاهده: فعلى مَن يحفظ القرآن الكريم المواظبة على تلاوته، وتجديد العهد بملازمته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، فَوَالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها) “رواه مسلم”.

5- تدبر القرآن الكريم وفهمه: أمر الله تعالى بتدبر كلامه في قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) النساء: 82، وفي قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب) ص: 29، والتدبر هو أن يقرأ المرء القرآن بخشوع، وخشية، وتمعن، وتأمل في معانيه، وصفة التدبر والفهم أن يشغل القارئ قلبه وفكره في معاني القرآن، ويتأمل الأوامر والنواهي فإن كان ممن قصر استغفر ورجع، وعلى هذا كان يسير سلفنا الصالح، روى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعملوا ما في هذه من العلم والعمل قالوا: نتعلم العلم والعمل.

6- ضرورة تعاهد القرآن الكريم وعدم هجره ونسيانه: روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بئسما لأحدهم أو لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسيَ، فاستذكروا القرآن؛ فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم من عقله)  “صححه الألباني”، وهنا تجدر الإشارة إلى أن النسيان نوعين:

– نوع ناتج عن الإهمال، والهجر لكتاب الله تعالى، وهذا ما يُحذَّر منه.

– ونوع ناتج عن ضعف الذاكرة، وكثرة المشاغل مما لا طاقة للإنسان بدفعها، ولا شك أن الحفظ السريع يفضي إلى النسيان السريع فإذا أراد المسلم أن يحفظ حفظًا راسخًا عليه أن يكرر ما يريد حفظه من المصحف قبل استظهاره، ويمكن معالجة النسيان بالآتي:

– اللجوء إلى الله تعالى وذلك بأن يلزم قلبه حفظ القرآن الكريم، وأن يجعله ربيع قلبه، قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) الكهف: 24.

– ترك المعاصي والآثام؛ لأن المسلم إذا فعل المعاصي عجز عن حفظ القرآن، وإذا استمر قلب الإنسان على المعاصي كان مرتعًا من مراتع الشيطان، قال تعالى: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون) المجادلة: 19، فالشيطان يريد أن يُبعِد الإنسان من رحمة الله كما أُبعِد عنها وأن يضله كما ضل، ولهذا فإن المعاصي والآثام لا تجتمع وحفظ القرآن الكريم في قلب امرئ واحد.

– المداومة على التلاوة وذلك بأن يكثر المسلم من تلاوة القرآن الكريم، ومن مذاكرة الآيات والسور التي يحفظها فإذا ما تعلق المسلم بكتاب الله شرح الله صدره، ويسر أمره، وأعانه على حفظ كتابه الكريم.

أختي المسلمة: تذكري وأنتِ تنوين حفظ كتاب الله ما قاله القرطبي في كتابه “الجامع لأحكام القرآن”: “فأول ذلك أن يخلص في طلبه لله عز وجل، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن ليله ونهاره، في الصلاة وفي غير الصلاة لئلا ينساه، وينبغي له أن يكون لله حامدًا، ولنعمه شاكرًا، وله ذاكرًا، وعليه متوكلاً، وبه مستعينًا، وللموت ذاكرًا، وله مستعدًا”.

ثم تأدبي بما ذكره عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما في قوله: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو ويصفح لحق القرآن؛ لأن في جوفه كلام الله تعالى وينبغي أن يصون نفسه عن طرق الشبهات، وأن يترك الجدال ويأخذ نفسه بالرفق والأدب، وينبغي له أن يكون ممن يؤمن شره، ويرجى خيره، ويسلم من ضره، ويدله على الصدق ومكارم الأخلاق).

آداب المسلم مع المصحف:

1- العناية بكتاب الله والمحافظة عليه: يقول القرطبي في الجامع: “ومن حرمته ألا يخلط فيه ما ليس منه، وإذا وضع المصحف ألا يترك منشورًا، وألا يضع فوقه شيئًا من الكتب حتى يكون أبدًا عاليًا على سائر الكتب، وألا يتوسد المصحف ولا يكون بعض آياته حلية للتزيين” “انتهى كلامه رحمه الله”، فلا تعلق الآيات للزينة، ولا تجسم؛ لذا وجب على المسلمين المحافظة على المصاحف وعدم إهانتها.

2- الطهارة والنظافة: فيشترط لقارئ القرآن الكريم أن يكون طاهر القلب بإخلاص النية لله عز وجل، كما يشترط أن يكون طاهر البدن، والثوب، ويستحب أن يكون على وضوء، كما يستحب التسوك، والمضمضة، ومن أراد مس المصحف وجبت عليه الطهارة، قال تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون) الواقعة: 79.

3- الاستعاذة والبسملة: أمر الله عز وجل كل قارئ للقرآن أن يفتتح تلاوته بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم) النحل: 98، ومن الآداب عند سماع القرآن الكريم عدم الضحك والحديث، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون) الأعراف: 204.

أختي المسلمة: تعلمي القرآن الكريم وحققي تلاوته على الوجه الصحيح، وتدبري معانيه وآياته وأحكامه، واعملي بها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران، وفي رواية: والذي يقرأ وهو يشتد عليه له أجران) “متفق عليه”، فالمقصود من تعلمه وتلاوته وتدبره هو العمل به والوقوف عند حدوده لنحل حلاله، ونحرم حرامه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور) فاطر: 29-30، ودلّت الآية على أنهم لم يقتصروا على التلاوة بل أقاموا الصلاة بعد أن قاموا بتلاوة كتاب الله وكذلك أنفقوا مما رزقهم الله بإيتاء الزكاة، والصدقات، والإحسان إلى المخلوقين وهذه هي ثمرة التلاوة وهي العمل بما فيه؛ لأنكِ إذا عملتِ بما فيه صار حجة لكِ عند الله سبحانه وتعالى، وإذا عطلتِ العمل صار حجة عليكِ قال عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) “رواه مسلم”، فمن اقتصر على تعلم القرآن وتلاوته دون العمل به أقام الحجة على نفسه، ولهذا يقول بعض السلف: ” رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقرأ قول الله تعالى: (فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِين) ، آل عمران، وهو يكذب ” ، فلا بد إذًا من تطبيق أحكام القرآن الكريم في جميع أمور الحياة فها هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول لابنه: ” يا بني إذا سمعت قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) فارعَ لها سمعك فهي إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه” ، فلاحظي بارك الله فيكِ أمور القرآن فطبقيها، ولاحظي نواهي القرآن الكريم فانتهي عنها.

فضل حفظ القرآن الكريم:

– حفظه ميسر للناس كلهم: يأمل كثير من الناس أن يحقق قدرًا من العلم، ومستوى من التحصيل، ولكن ربما تقف قدراته العقلية عائقًا دون ذلك، أما حفظ القرآن الكريم فله شأن آخر، فكم رأينا من محدودي الإدراك، وضعاف الحفظ من استطاعوا حفظ القرآن الكريم، ولقد قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) القمر: 17، والقرآن يسر الله تعالى حفظه على الغلمان والنساء في المدة القريبة وقد رأينا من حفظه على كبر سنه، وهذا من معجزاته.

– حفظه وتعلمه خير من متاع الدنيا: حين يفرح الناس بالدينار والدرهم ويحوزونها إلى رحالهم، فإن حافظ القرآن الكريم وقارئه يظفر بخير من ذلك وأبقى، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة فقال: (أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين، في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله! نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل). “صحيح مسلم”.

– الرفعة في الدنيا والآخرة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين) ، “رواه مسلم”، فهنيئًا لكِ أن تكوني ممن يرفعهم هذا القرآن العظيم ويعلي شأنهم.

– القرآن الكريم حجة لصاحبه أو عليه: المرء لا يخلو أن يكون القرآن حجة له أو عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال، ما نسيتهن بعد، قال: كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حزقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما). “رواه مسلم”.

– سلامة قلبه من الخراب: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) “حسن صحيح رواه الترمذيَ”.

– الحرف بحسنة والحسنة بعشر: حافظ القرآن هو أكثر الناس تلاوة لكتاب الله؛ لأنه لن يطيق حفظه إلا بترداده ولن يثبت له ذلك إلا بمراجعته، ولكِ أن تقدري أيّ جزاء وثواب تحصلين عليه حين تجزين بالحرف الواحد حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) “صححه الألباني”.

– حافظ القرآن ترتفع درجاته في الجنة: حين يدخل المؤمنون الجنة فإن حافظ القرآن يعلو غيره بدرجاته لتعلو منزلته، وترتفع درجته في الآخرة، كما ارتفعت في الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء صاحب القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارضَ عنه، فيقال: اقرأ وارقأ ويزاد بكل آية حسنة) “حسن صحيح رواه الترمذي”.

– حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة: حافظ القرآن مع السفرة الكرام البررة فعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران) “صحيح البخاري”.

– حفظ القرآن شفاء للصدور: تزداد شكوى الصالحين اليوم من قسوة القلوب وصدئها، وتكثر التساؤلات عن المعاناة التي يعاني منها الجميع بما فيهم الصالحون، وفي ظل البحث والتساؤل عن الحل والعلاج لن يجد أحد علاجًا غير الإقبال على كتاب الله تبارك وتعالى الذي وصفه من أنزله بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر: 23، فالانشغال بحفظ القرآن فيه علاج لصدأ القلوب، وقسوتها، وزيادة للإيمان قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون) الأنفال: 2، وقوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون) التوبة: 124.

– حلق القرآن ميدان للصحبة الصالحة: يشعر المرء مهما كان أنه بحاجة إلى صحبة ورفقة، والمسلم الذي يعنيه شأن دينه يدرك تمام الإدراك تلك الضرورة الملحة لاختيار الصحبة الصالحة الذين يأمنهم على دينه، ويرضى أن يحشر معهم يوم القيامة؛ لذا فقد أشار أنصح الخلق صلى الله عليه وسلم وأعرفهم بالله سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى في أحاديث عدة منها قوله: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) “رواه الترمذي”، وقوله: (لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي) “رواه أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي”، وحافظ القرآن يتيح له درس الحفظ التعرف واللقاء بالصحبة الصالحة ومجالسة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، فهو أسعد الناس بفضائل الصحبة الصالحة في الدنيا والآخرة؛ بل حين يكرم أصحابه فذلك من إجلال الله، وحين يحبهم يحبهم لله، وحين يتبرأ الناس يوم القيامة من أخلائهم فهؤلاء أخلاء على سررٍ متقابلين، قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِين) الزخرف: 67.

– حين يفني المرء شبابه بحفظ كتاب الله: سيقف كل امرئ طال عمره أو قصر بين يدي ربه ويُسأل ويُحاسب، ومن صور الحساب ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) “حسن صحيح”.

– وأخيرًا: حفظ القرآن خطوة نحو الاستقامة؛ فانشغال الشاب بحفظ القرآن مدعاة لحفظه في مقتبل حياته، وفترة مراهقته حيث تكثر الصبوة، ويميل الأقران للشهوات، وبحفظه للقرآن يبتعد عن أسباب الانحراف، ويقترب من أهل الصلاح والفلاح.

وحفظ القرآن الكريم خير ما تنفق فيه الأوقات، وحفظ القرآن استثمار للوقت بما ينفع، وانشغال وانصراف عن القيل والقال، واللغط واللهو، فحين يسابق الناس إلى مجالس اللهو التي ينهشون فيها أعراض الناس، أو يتحدثون عما يهيج الشهوات والغرائز؛ فالمشتغل بحفظ القرآن له شأن آخر، ويا له من بَون شاسع بين هؤلاء وأولئك، بل إن المقارنة بين هاذين النموذجين غير متكافئة.

والنفس أبية عصية إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فأولئك الذين شغلوا أنفسهم بحفظ كتاب الله ربما لو تركوا ذلك كان البديل إضاعة الوقت فيما لا ينفع؛ بل ربما فيما حرّم الله تبارك وتعالى.

وبعد: وقد عرفت فضل حفظ القرآن الكريم وأجر تدارسه، وتعليمه، والعمل به، أفلا تشمرين عن ساعد الجد حتى يكون القرآن هو منهاج حياتكِ، متأدبةً بآدابه، وبأخلاقه، متذكرةً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) “رواه البخاري”، فتتحقق هذه الخيرية في باطنكِ وظاهركِ، فلا يكون في قلبكِ إلا كل خير للجميع وإذا تحدثتِ لا تتحدثين إلا بكل خير، وإذا مشيتِ فأنتِ تمشين إلى خير -بإذن الله تعالى- وتذكري عند حفظكِ للقرآن الكريم أنكِ تحملين بين جنباتكِ العلم، قال تعالى: (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُون) العنكبوت: 49.

أسأل الله العلي العظيم أن ييسر لنا حفظ القرآن الكريم، ويجعلنا من العاملين به، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وصلى الله على محمد، وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.

Scroll to Top