ثلاثية السعادة

 

د. قذلة القحطاني.
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وصحبه أجمعين … أما بعد..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون)  آل عمران، 102 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء،1 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) الأحزاب، 70-71
اللهم لك الحمد كما خلقتنا وهديتنا وعلمتنا وفرجت عنا، لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالإيمان ولك الحمد بالقرآن، كبت عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمننا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا.

اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة.

لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا. اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا كما يحب ربنا ويرضى. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغى، وأرفق من ملك، وأجود من سؤل، وأوسع من أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تُطاع ألا بإذنك، ولن تُعصى إلا بعلمك، تُطاع فتشكُر وتُعصى فتغفِر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال ،القلوب لك مفضيه والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرّمت، والدين ما شرعت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الذي لا إله إلا أنت. اللهم إنَّ نسألك أن تتقبل منا إنك التواب الرحيم، وتُبْ علينا يا ذا الجلال والإكرام.

أما بعد أخواتي الفاضلات: أُحييكُنَّ بتحية الإسلام، تحية من الله مباركة طيبة … فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
ها نحن اليوم نجتمع على أمر عظيم، وموضوع هام يهم كل واحدة؛ فالسعادة مطلب لكل إنسان؛ فكل إنسان يتمنى أن يكون سعيدًا في حياته، يذهب أحيانًا إلى الربيع والخضرة طلبًا في سعادة القلب والروح، فأسأل الله أن يسعدكم، وأن يجعل هذا المجلس مجلس مبارك، وما يدريك قد يسمع العبد كلمة تصلح قلبه وتسعده في دنياه وآخرته، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

كثرت مصطلحات السعادة، وكثر البحث عن السعادة، وسعى الساعون للسعادة والأصل عندما يريد الشخص أمرًا ما أن يبحث عن الأساس والقاعدة التي يقوم عليها هذا الأمر.
نتأمل واقعنا الآن لماذا الواحد منا يشعر بالتعاسة، وصدره ضائق، ولا يشعر بالسعادة؛ قد يكون هذا الشخص عنده متاع الدنيا ومع ذلك يكتب “أنا أتعس إنسان على وجه الأرض” يحكم على قلبه، ويحكم على نفسه ومن تعاسته القلبية يحكم على الناس أن كلهم سيئون، وكلهم أهل غدر!!
وهذه التعاسة، وهذا الغم الذي أصبح في القلب غطّى البصيرة وغطّى على القلب، قد تقرأ في خواطر نجدها في كتابات بعض الشباب توحي بذلك رغم أن عنده أمور السعادة الدنيوية في مفهوم الناس، وقد تصل به إلى حد الانتحار!!
أمثلة :
1- مؤلف كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” هذا المؤلف ألَّف كتاب مؤثر، ووضع فيه قواعد للسعادة انتشر حتى أنه من أكثر الكتب مبيعًا في العالم، وطُبِع بالملايين، ولكن ماذا كانت نهاية مؤلفه! الانتحار!! نسأل الله السلامة والعافية؛ شيء عجيب شخص عالج القلق ودعا الناس إلى السعادة ثم انتحر! حتى أن العلامة الشيخ السعدي –رحمه الله– لما ذهب للعلاج في الخارج اطلع على هذا الكتاب، وأخرج للناس كتابًا عظيمًا سماه (الوسائل المفيدة في الحياة السعيدة” كتبه بنور الإيمان.
2- المرأة التي كانت أشهر ممثلة إغراء “ارلين مونرو” ممثلة الإغراء الأمريكية التي تعد أشهر ممثلة في تاريخ هوليود!! هذه المرأة تركت الدنيا في الخامس من أغسطس عام 1962 م. في ظروف غامضة؛ فماذا كانت حياة تلك المشهورة التي ملأت الدنيا، وشغلت الناس في حياتها، وبعد وفاتها، والتي تركت الدنيا في أوج شهرتها، وعزِّ بريقها، وشرخ شبابها التي لا يزال الحديث مستمرًا عنها؟ هل هي سعيدة في حياتها؟ وهل أغنت عنها شهرتها؟
لعل حديثها عن نفسها يكون أبلغ وأوقع فتقول عن نفسها: “إنها نشأت في جو يخيم عليه الحزن، وتحاصره الكآبة؛ فلم تعرف لها أبًا، ولم تجد لها أمًا حنونًا، ولم يُرَبِّتْ أحد على كتفها، ليقول لها كما يقال للصغار: أنت طفلة جميلة، وتعترف بأن الرجل الذي كتب اسمه في شهادة ميلادها على أنه أبوها هو أحد عشاق أمِّها الذي ربما اختارته بطريقة عشوائية كأب للمولودة الجديدة”
وتقول مارلين: “إن الملجأ كان مأواها في سن مبكرة بعد إصابة أمها باضطرابات عقلية شديدة، وبعد الملجأ تلقتها أسر كثيرة لرعايتها، حتى استقرت في النهاية عند سيدة عجوز تدعى ” آنالودور ” ظلت معها حتى الدراسة الثانوية، واكتشفت العجوز أن الفتاة كبرت، وأصبحت رائعة الجمال بطريقة جعلت الشباب في مدينة لوس أنجلوس يلاحقونها أينما ذهبت، فدبرت زواجها من شاب يدعى “جيم دوجرتي” ولكنها لم تحبه، ولم تشعر بالسعادة معه، وهنا بدأت العمل في السينما، وشعر الزوج بالغيرة، وانتهى الأمر بالطلاق، وبدأت مارلين تصعد أول درجات الشهرة كممثلة” .
بعد ذلك وصلت إلى قمة الشهرة؛ فاشتعلت الغيرة والحقد –كما تقول مارلين– في نفوس كثيرين، ولم تشعر –كما تقول– بدفء المشاعر، وصدق النوايا.!
وأخيرًا كيف كانت نهاية تلك المرأة؟
لقد وجدوها جثة هامدة في منزلها، واكتشف المحقق الذي تناول قضيتها أنها ماتت منتحرة، ووجد رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في مانهاتن في نيويورك، وهذه الرسالة ألقت بعض الضوء على انتحار مارلين مونرو؛ إذ وجد على غلافها كلمة تطلب عدم فتح الرسالة قبل وفاتها.
ولما فتح المحقق الرسالة، وجدها مكتوبة بخط مارلين مونرو بالذات، وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل.
قالت مارلين في رسالتها إلى الفتاة، وإلى كل من ترغب العمل في السينما: “احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء؛ إني أتعس امرأة على هذه الأرض؛ لم أستطع أن أكون أمًا، إني أفَضِّل البيت، والحياة العائلية الشريفةَ على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة، بل الإنسانية”. وتقول في النهاية: “لقد ظلمني الناس، وإن العمل في السينما يجعل المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة، إني أنصح الفتيات بعدم العمل في السينما وفي التمثيل، إن نهايتهن إذا كن عاقلات كنهايتي”.
هذه هي حال تلك المرأة، وهذه نصائحها المجانية تقدمها في نهاية مطافها؛ فما أكثر العبر، وما أقل المعتبر؛ فهل من مدكر؟
شيء عجيب: كاتبة بخطها “إني لأتعس امرأة على وجه الأرض” ممثلة!! سافرت!! تحررت!! نالت المال!! نالت الشهرة!! نالت الجمال!! نالت السفر!! لكن في النهاية هذه رسالتها وتجزم أنها أتعس امرأة على وجه الأرض.
* إذن فالسعادة الحقيقية سر لا يعرفه كل الناس.
* لهذا يا أخواتي دعونا نبحث عن السعادة الحقيقة، وهي ثلاثة أركان -ثلاثية السعادة-
كما قلتُ سابقًا إذا أردتِ تأسيس بناء فالأساس أولاً، إذا أردتِ بناء قصر؛ لابد أن تبني الأساس ولو بنيتِ البناء بدون الأساس سقط؛ لذلك دعونا نبحث عن الأساس في واقعنا.
نجد نساءً الواحدة منهُنَّ تقول: ضاقت بي الدنيا!!
ما فيه شيء في هذه الحياة!!
تأتين تبحثين عن التعاسة التي وصلت بها إلى هذه الدرجة إما وحشة في القلب –مثل ما تقول– تأنيب ضمير، ندم، ضيق لا تعلم مصدره إلخ.
ثم نبحث عن الأسباب:
الأول- إما حزن على ماضي:
مشاكل مرت بها، وفاة عزيز عليها، وذكرت امرأة تقول لي: “ثلاث سنوات بعد وفاة ولدي لا ليلي ليل ولا نهاري نهار وأصبحت الدنيا عندي لا تساوي شيئًا، وتقول: “لم أستطع التعايش مع الوضع الجديد .. وسيطر عليها الحزن وفعلاً كأنها تخطت عشرين سنة بهذه الثلاث سنوات، تقاطيع وجهها، الحزن، النصب؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم– تعوذ من الحزن، والرسول ما تعوذ من شيء إلا لخطره وشدته على النفس.
يجلس الإنسان يتحسر على الماضي حسرات؛ فالنتيجة أن الإنسان لا يجد للحياة طعم.
الثاني- الخوف من المستقبل:
خوفه من الناس، خوفه من الأعداء، خوفه من السحرة، وخوفه الفقر؛ وهكذا يعيش الإنسان بحزن وعدم سعادة.
الثالث- التطلع إلى من فوقه والحسد والحسرات:
يتطلع لمن هم أعلى منه، يتطلع للدنيا ما حصلت على كذا، ما نلت كذا؛ فتكون انعكاس يغلق القلب ثم تظلم الدنيا ثم تظلم النفس ثم تكون التعاسة ثم لا تجد للحياة طعمًا لماذا؟ لفوات المحبوب، تطلّع إلى ملذات الدنيا.
أخاطب كل مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أقول لها: إن هناك سعادة حقيقية، إن هناك حياة طبيعية؛ فلا بد من معرفة الأساس الذي إذا عمقت أركانه في قلبك انشرح وسعد، فنبدأ:
وجود ضيقة بالصدر: , غمة, كآبة , فلا يوجد سعادة، تجدين عنده الدنيا ولكن القلب ضائق؛ ولذلك تجدين من يبحث عن السعادة أحيانًا في السفر، وتارةً في سماع الغناء، وتارةً في مشاهدة الأفلام والقنوات، وهكذا؛ لكن الضنك يزيد.
قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) طه،124
** إذًا كيف تُعالج هذه الأمور؟ كيف نعيش؟ ولهذا أقول لك: ما هي السعادة الحقيقة؟ أضربُ لكُنَّ مثال: نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم– الذي كان من أشرح الناس صدرًا وقد مرت سلسلة من المصائب عليه –عليه الصلاة السلام– والأزمات من فقدان الأحباب , فقد زوجته , فقد أولاده , فقد بناته , دفنهم كلهم , لم يبقَ إلا فاطمة الزهراء –رضي الله عنها وأرضاها– ومع ذلك كان من أشرح الناس صدرًا قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الشرح،1 كذلك أتباعه من الصالحين من العلماء مثل: شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يصفه تلميذه ابن القيم –رحمه الله تعالى– فيقول: عن حال شيخ الإسلام ابن تيميّة قال لي مرة: “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري –يعني بذلك إيمانه وعلمه أو الكتاب والسنّة– أينما رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة” وكان يقول في محبسه في القلعة: “لو بدلت لهم ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة أو قال: ما جزيتهم على ما سببوا لي فيه من الخير” وكان يقول في سجوده وهو محبوس: “اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” ما شاء الله يعني يكرر ذلك كثيرًا.
وقال لي مرة: “المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه” ولما دخل القلعة، وصار من داخل سورها نظر إليه وقال: “فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ” الحديد، 13
ويعلم الله ما رأيتُ أحدًا أطيب عيشًا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية، والنعيم، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرجاف، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا وأشرحهم صدرًا، أقواهم قلبًا، وأسرهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه.
وكُنا إذا اشتدّ بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه؛ فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوةً، ويقينًا، وطمأنينةَ وكان يقول: “إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة، فسبحان من أشهد عباده جنّته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل؛ فأتاهم من روحها، ونسيمها، وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها” انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى. (1)

( الوابل الصيب لابن القيم رحمه الله تعالى |ص: 59).. ونقله عنه الحافظ ابن رجب في ” ذيل طبقات الحنابلة 2 / 402 ”

سبحان الله من أين انبعث عليه هذه السعادة شخص تكالبت عليه الأمور، حاربوه الأعداء، سجنوه، حاولوا قتله، حتى القلم يأخذوه منه حتى لا يكتب رحمه الله.
وفي النهاية سجنوه في قلعة مظلمة وذهب بصره رحمه الله تعالى في آخر حياته، وها هو اليوم حي بيننا نسمع ونقرأ كلامه والتويتر يغرد بكلامه، وطلبة العلم على كتبه، وطباعة كتبه، والرسائل الجامعية على خدمة كتبه، وعلى مقالاته، ومؤلفاته، وهذه السعادة الحقيقة التي لا بد أن تبحث عنها.
كيف يكون هذا القلب سعيدًا؟
أعظم علاج ولا علاج غيره الذي هو الأساس الإيمان.
صاحب كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” كان رجل مفكر، وعنده علوم الدنيا؛ ولكن ليس في قلبه نور الإيمان، شيء عجيب ينتحر!! ومرحلة الانتحار هذه قمة الشقاء، شخص ترك الدنيا وزينتها لم يبقَ أمامه شيء، ويريد أن يتخلص من الحياة.
بالمقابل نرى مثال لمن ذاق الإيمان “سمية رضي الله عنها”، “صهيب رضي الله عنه”، “بلال رضي الله عنه”، هؤلاء الذين ليس لهم شيء من الدنيا عُذبوا، أوذوا في الله، ضُربوا بالسياط، جُلدوا، وُضعت عليهم الصخور، ومع ذلك كان بلال يقو: أحدٌ أحد، وسبحان الله ما انتحر! ما أرتد! إنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هنا الركيزة الكبيرة :
تريدين السعادة أطلبي الإيمان، ومكملاته ولهذا نقول:
الركيزة الأولى: هو الإيمان بالله تعالى، وما يتبع ذلك من الأعمال الصالحة التي يكون عليها مدار القلب، والروح:
هذا الأساس الأول الذي نريد تأسسيه اليوم وتفقديه. يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) العصر.
أقسم الله تعالى بالعصر الذي هو الليل والنهار محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل أنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح، والخسارة مراتب متعددة متفاوتة قد يكون خسارًا مطلقًا كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم، وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخاسر لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات :
1- الإيمان بما أمر الله:
الإيمان به ولا يكون الإيمان بدون العلم؛ فهو فرع عنه ولا يتم إلا به.
العمل الصالح وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة.
التواصي بالحق الذي هو الإيمان، والعمل الصالح أي يوصي بعضهم بعضًا بذلك.
التواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم. (1)
استثنى الله أنا لم يذكرهم بأسمائهم، وذكر صفات.
إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وهذه المسائل الأربع التي يجب على كل مسلم تعلمها كما ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه الأصول الثلاثة وهي:
الأولى- العلم: وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه –صلى الله عليه وسلم– ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية- العمل به.
الثالثة- الدعوة إليه.
الرابعة- الصبر على الأذى فيه. (1)
إذن مَن يريد السعادة فعليه بالإيمان ومكملاته، اهتموا بالتوحيد؛ فدروس التوحيد، وأصول الإيمان، ومعرفتها، هي العلم بالله تعالى.
وسمعت كلمة أعجبتني من أحد طلاب العلم يقول: “جهلنا بالله هو سبب ضياعنا” حتى أن البعض لا يعلم بعض أسماء الله، وصفاته! كيف يكون الإيمان إذا كانت عندنا جهل بالله تعالى! وهذا الأمر هو المطلب العظيم الذي عليه مدار السعادة؛ فمن عرف الله عرف السعادة، واستغنى به فإذا كان الله كافيك، ومولاك فماذا تخشى من الخلق!
تأملوا الآيات دائمًا الله ينفي الخوف، والحزن عن أوليائه يقول الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت، 30 قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال ابن كثير: “أي أخلصوا العمل لله، واعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع له مرضي الله عنه. (2)
قال الزهري: “تلا عمر هذه الآية على المنبر، ثم قال: (استقاموا) والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب رضي الله عنه. (3)
روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي –رضي الله عنه– قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً: لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: (قُل: آمنت بالله فاستقم) رضي الله عنه. (4)

…………………………………………………………………………….

1 كتاب الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى؟ ص: 7)
2 3 تفسير ابن كثر رحمه الله تعالى؟ ص: 234 235 / 12)
4 رواه مسلم برقم 38 / ص : 49 )

ولا يكون العبد على طريق الاستقامة: حتى تكون إرادته، وأعماله، وأقواله، وفق ما شرعه الله، وعلى سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم– قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) هود، 112 فقال: (كَمَا أُمِرْتَ) ولم يقل: كما أردت، فالمهتدي حقيقةً هو من كان سويًا في نفسه، ويسير على الصراط المستقيم، قال تعالى: (أفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الملك،22.
قوله تعالى: (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) يعني عند الموت، قائلين: (أَلَّا تَخَافُو) أي: مما تقدمون عليه من أمر الآخرة؛ فإن للآخرة أهوالاً عظيمة تبدأ من القبر؛ فهو أول منازل الآخرة، وهناك القبر، وظلمته وضمته، ووحشته، والنفخ في الصور، وعرصات يوم القيامة، والصراط، والميزان، كل هذه الأهوال يهونها الله على أهل الاستقامة.
قوله تعالى: (وَلَا تَحْزَنُوا) أي: على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد، وأهل ومال ودين، فإنا نخلفكم فيه.
قوله تعالى: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فصلت، 30 فيبشرونهم بذهاب الشر، وحصول الخير، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه– أن النبي –صلى الله عليه وسلم– قال: (إن الميت تحضره الملائكة؛ فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان” رضي الله عنه. (1)
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت: أنه قرأ سورة حم السجدة، حتى بلغ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) فوقف فقال: “بَلَغَنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن، فيؤمّن الله خوفه، ويقرّ عينه، فما من عظيمة يخشى الناس منها يوم القيامة، إلا وهي للمؤمن قرة عين لما هداه الله، ولما كان يعمل له في الدنيا رضي الله عنه”. (2)

………………………………………………………………

1 / 14/ 378) -1برقم 8769؛ وصححه محققو المسند، وقالوا: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
2- عزاه ابن كثير في تفسيره 1/ 236 237) إلى ابن أبي حاتم، وقال محققوه إسناده حسن.

قال ابن مسعود: “إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال له: إن ربك يقرئك السلام” وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: “السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام، ثم تلا: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل، 32 وقال زيد بن أسلم: “يبشرونه عند موته، وفي قبره، وحين يبعث” قال ابن كثير: “وهذا القول يجمع الأقوال كلها، وهو حسن جدًا وهو الواقع رضي الله عنه. (1)
وتأملي قصة الخضر في سورة الكهف يرسل الله نبي من أنبيائه وهو الخضر يذهب للقرية ليبني الجدار لماذا؟ (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) الكهف، 28
هذا السر الذي تصنعين تحته خط (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) وإلا الأيتام كثير ولكن هذا يتيم له خصوصية لماذا؟ لأن أبوه صالح؛ فلهذا يا أخواتي اطمئنوا أصدقي فيما بينك وبين الله ولا تخافي على أولادك، ولا على مالك وثقي أن الله يكفيك كل ما أهمك.
وهذا ما وصف الله تعالى أولياءه في سورة يونس في قوله تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يونس، 26 نفى عنهم الخوف، والحزن، هذه السعادة الحقيقة لكن ما هي صفاتهم؟ (الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) هذه أعظم صفتين يتصفون بهم: صلاح القلب، وصلاح الروح وغذاء الروح، ولهذا أتعبتنا غذاء الأبدان , ترى المطابخ، والمطاعم، والتفنن أصبحنا نتفنن في تزين الطعام وتشكله، وتجميله، وهذا غذاء الأبدان؛ لكن غفلنا عن الغذاء الحقيقي وهو غذاء الأرواح؛ فصرنا نغذي البدن، والروح جائعة؛ لهذا يجد الإنسان هذا الضنك، وهذه الضيقة لا تذهب إلا بذكر الله وبالقرآن، ولذلك يجب الاهتمام بصلاح القلب، وتغذيته، بالإيمان وأدعو المؤسسات، والمدارس إلى إقامة دروس العقيدة، ونشرها بين الناس؛ فنحن بأمس الحاجة إلى هذه الدروس، ومعرفة الله –جل وعلا– والإيمان بوجوده، والإيمان بروبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه، و صفاته.

1- تفسير ابن كثير  12 / 237)

نعرف ربنا نريد هذا في بيوتنا بين أطفالنا، نعرف أن الله خلقنا، ورزقنا، ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولاً؛ فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، نُعرِّف أبناءنا التوحيد، نربيهم على التوحيد.
لماذا ظهر لنا الإلحاد؟ وظهر لنا سب النبي! وسب الدين!؟
الناشئة بحاجة إلى غذاء الروح، وتعميق العقيدة الصحيحة، ومعرفة الله تعالى ربًا، وخالقًا تدعوه وتتوسل إليه، ونؤمن به الذي خلقنا، ورزقنا (لا إله إلا الله).
هل من خالق غير الله؟
قال تعالى: (أمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) الطور، 35
تفكر في خلقك أين كنت قبل أن تخرج إلى هذه الدنيا؟ ما هي المراحل التي مر بها الإنسان؟ قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) نوح، 14 انظري إلى هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان في رحم الأم نطفة، علقة، مضغة، ثم كسى العظام لحمًا (لا إله إلا الله) لو ترين شكلكِ وأنت علقة على جدار الرحم مثل التوتة ليس فيها من معالم البشرية شيء!
هذه أنا، وأنتِ وكل مخلوق على وجه الأرض، من الذي خلقنا؟ وحملنا؟ وشق أسماعنا وأبصارنا؟ (لا إله إلا الله) فهذا البشر آية من آيات الربوبية، والعظمة، ولهذا لا بد من معرفته سبحانه نحمده، ونشكره، سبحانه في كل نبضة عرق، وطرفة عين.

الإلحاد، وإنكار وجود الله ظاهرة شاذة حتى كفار مكة أبو لهب، وأبو جهل كانوا يعترفون بوجود الله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) الزمر، 38 كانوا مؤمنين بوجود الله، ومعرفته، هذه حقيقة لا أحد ينكرها حتى لو كفروا، وعبدوا، الأصنام لكنهم يقرون أن الله الخالق الرازق (لا إله إلا الله).
* فلينظر الإنسان أيضًا إلى طعامه قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًا، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) عبس،25
انظرِ إلى طعامك هذا الخبز ما هي المراحل التي مر عليها منذ أن كان حبة شق الله الأرض وأخرجها، ثم اكتملت سنبلة، ثم أصبحت كالفضة، ثم حصدها الزراع، ثم وضعوها في البيدر، ثم جفت، ثم طحنوها، ثم عجنوها، ثم خبزوها، ثم وصلت إليك، هذه عظمة الله تعالى!.
إذا ضاقت بك الدنيا فاعلمي أن الله معك.
يا أيها الحزين، يا أيها المبتلى، يا أيها الذي حزن قلبك وأصبح أسير الغم والهم والحزن، اعلم أن معك ربًا يسمع الصوت، ويفرج الكرب، ويراك، ويحفظك، ويبصرك (لا إله إلا هو ).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “حال العبد في القبر كحال القلب في الصدر، نعيمًا وعذابًا، وسجنًا وانطلاقًا؛ فإذا أردت أن تعرف حالك في قبرك فانظر إلى حال قلبك في صدرك؛ فإذا كان قلبك ممتلئًا بشاشة، وسكينة، وطهارة، فهذا حالك في قبرك -بإذن الله-، والعكس صحيح ولهذا تجد صاحب الطاعة، وحسن الخلق، والسماحة أكثر الناس طمأنينة؛ فالإيمان يذهب الهموم، ويزيل الغموم، وهو قرة عين الموحدين، وسلوة العابدين من أدام التسبيح انفرجت أساريره، ومن أدام الحمد تتابعت عليه الخيرات ومن أدام الاستغفار فتحت له المغاليق” (1)

1  الكتاب : الداء والدواء  لابن القيم رحمه الله (  187 / 188 )

في قصة خولة زوجها أوس بن الصامت مع زوجها عندما غضب منها وقال: “أنت عليَ كظهر أمي” فقالت له زوجته خولة والدموع تنهل من عينيها لشدة ما سمعت منه: “والله لقد تكلمت بكلام عظيم، ما أدري مبلغُهُ” ثم خرج الزوج بعد أن قال ما قال: فجلس في نادي القوم ساعة ثم دخل عليها يراودها عن نفسها، ولكنها امتنعت حتى تعلم حكم الله، فقالت: “كلا… والذي نفس خولة بيده، لا تخلصنَّ إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه …”. خرجت خولة حتى جاءت رسول الله فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت من زوجها، وهي بذلك تريد أن تستفتيه، وتجادله في الأمر، فقالت له: “يا رسول الله، إن أوس من قد عرفت، أبو ولدي، وابن عمي، وأحب الناس إلي، وقد عرفت ما يصيبه من اللمم، وعجز مقدرته، وضعف قوته، وعي لسانه، وأحق من عاد عليه أنا بشيء إن وجدته، وأحق من عاد علي بشيء إن وجده هو، وقد قال كلمة والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقًا قال: “أنت علي كظهر أمي” فقال رسول الله “ما أراكِ إلا قد حرمت عليه” والمرأة المؤمنة تعيد الكلام، وتبين لرسول الله ما قد يصيبها، وابنها إذا افترقت عن زوجها، وفي كل مرة يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أراكِ إلا قد حرمت عليه” وأزاحت الصحابية الجليلة المؤمنة الصابرة نفسها، واتجهت نحو الكعبة المشرفة، ورفعت يديها إلى السماء، وفي قلبها حزن وأسى، وفي عينيها دموع وحسرة، قائلة: “اللهم إني أشكو إليك شدة وجدي، وما شقّ علي من فراقه، اللهم أنزل على لسان نبيك ما يكون فيه فرج” تقول السيدة عائشة –رضي الله عنها– وهي تصف لنا حالة خولة: “فلقد بكيت وبكى من كان معها، ومن أهل البيت رحمةً لها، ورقة عليها، وما كادت تفرغ من دعائها حتى تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يغشاه عند نزول الوحي، ثم سرى عنه فقال رسول الله: “يا خولة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا” ثم قرأ عليها: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)” المجادلة، 1-4 ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كفارة الظهار فقال النبي “قد أصبتِ، وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا” ففعلت، ونهضت خولة –رضي الله عنها– لتعود إلى زوجها فتجده جالسًا جانب الباب ينتظرها، فقال لها: يا خولة ما وراءكِ؟ (1)
فقالت والفرحة على وجهها: “خيرًا …” وشرحت له ما قال لها الرسول بأمر الكفارة. (2)
ومما روي في شأن خولة –رضي الله عنها– أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– مر بها في زمن خلافته وهو أمير المؤمنين، وكان راكبًا على حمار فاستوقفته خولة طويلاً، ووعظته وقالت له: “يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميرًا في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سُميت عمر ثم تذهب الأيام حتى سُميت أمير المؤمنين؛ فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب “وعمر بن الخطاب –رضي الله عنه– واقف أمامها، يسمع كلامها في إمعان وقد أحنى رأسه مصغيًا إليها، وقد كان برفقته أحد مرافقيه وهو جارود العبدي، فلم يستطع صبرًا لما قالت خولة لأمير المؤمنين فقال لها في غضب: “قد أكثرتِ أيتها المرأة العجوز على أمير المؤمنين” فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “دعها … أما تعرفها؟ هذه خولة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، وعمر أحق والله أن يسمع لها.. ” (3)
سمعها السميع الذي وسع سمعه الأصوات سبحانه وتعالى لماذا تضيق بك الدنيا؟ اعرف ربك وتوجه إليه، اعرف من تعبد رب عظيم يسمعك، ويسمع شكواك ولهذا ما قابلت امرأة وهي تعاني الألم والحسرة إلا وجدت علاجها في هذا الدين وفي الإيمان فكيف نغذي الروح؟ كيف تعرف ربها؟ كيف تنشرح؟ أمر الروح أمر عظيم، أمر عجيب، أحيانًا يصبح صدر الإنسان أضيق عليه من سم الخياط، وأحيانًا يصبح صدره أوسع من الدنيا بما فيها.

………………………………………………………………….

1- الطبقات الكبرى لابن سعد (8/378)
2-راجع قصة المجادلة لخولة بنت ثعلبة مفصلة في المستدرك للحاكم (481/2) وكذلك في المسند الإمام أحمد (46/1) والنسائي في النكاح باب الظهار (168/6)
وعند الإمام البخاري في التوحيد باب قوله تعالى: (وكان الله سميعًا بصيرًا) كذلك في طبقات ابن السعد (380/8) بنحوه
3- من كتاب نساء حول الرسول للدكتور بسام محمد حمامي صفحة 48
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الشرح،1 (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد، 28 فما تطمئن إلا بذكر الله، وما تسكن إلا بالله، ولهذا ابن القيم يقول: “إن في القلب شعاع: لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة: لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره، ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب ، وفيه فاقة: لا يسدها إلا محبته، ودوام ذكره، والاخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبد” (1)

1  مدارج السالكين  لابن القيم ؟ ج 3 / ص : 13 الا بذكر الله ”

إحدى الأخوات تقول لي قبل فترة: فقدت أمي، وبعد ما فقدتها شعرت أن الدنيا ضاقت بي بما رحبت، وعجزت أن أعيش بعدها من شدة حبي لها، وقربها مني، وتعلقي بها، وتقول: مرت بي أيام ما صرت أشعر بالحياة ففتح الله لي، واتجهت إلى دار قرآن، وبدأت أحفظ القرآن، وبدأت أعيش مع القرآن؛ ففتح الله علي والآن لي سنتين وأنا أعيش حياة طيبة، أعيش حياة فرح، وسرور وانشراح، وسعادة لا يعلمها إلا الله والحمد لله رب العالمين.
هذا هو الإيمان وجدت غذاء الروح بمعرفة الله في كتاب الله في قراءة كلامه.
إذا كان ماء زمزم يقول عليه الصلاة والسلام: “ماء زمزم لما شُرب له” ماء مبارك يشربه المريض؛ فيشفى –بإذن الله– يشربه الحزين؛ فيذهب حزنه، إذا كان ماء زمزم وهو مخلوق جعل الله فيه هذه الفضائل فكيف بكلامه سبحانه الذي هو كلامه غير مخلوق!!
لماذا لا نستشفي بالقرآن(! قال تعالى: (وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ) يونس، 57 وقال تعالى: (وَيَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) التوبة، 14 هذا شفاء الصدور ولهذا الصدور ما لها دواء؛ لكن إذا مرضت اقبلي على الله، وتلذذي بكلامه، وغذي هذا الروح، وتذوقي حلاوة الإيمان؛ فإن للإيمان حلاوة، عن أنس بن مالكٍ –رضي الله عنه– عن النبي –صلى الله عليهِ وسلم– قال: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) (1)

1  رواه البخاري برقم (16 )  ومسلم برقم  (42)

وهذه الأمور الثلاثة هي سبب تذوق حلاوة الإيمان؛ فإذا تذوقتِ حلاوة الإيمان أصبح صدرك أوسع من الدنيا بما فيها، ولهذا من آثار الإيمان أن الله ينزل السكينة، ينزل الطمأنينة، يربط على قلبه، وليس معنى ذلك أنه إذا كان الإنسان هكذا لا يبتلى! بل على العكس إن المؤمن أشد الناس بلاء، يبتليه الله، ويخلصه، لكنه معه وليه، يثبته، يربط على قلبه، يسكن عنه خوفه، يدفع عنه شر الأعداء.
وأذكر لكم بعض الأمثلة:
*هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم– إلى يثرب:
تآمرت قريش على حياة الرسول –صلى الله عليه وسلم– بعد أن علم المشركون بما تم بين الرسول –صلى الله عليه وسلم– والأنصار في العقبة الثانية، ورأوا المسلمين يهاجرون إلى يثرب جماعاتّ وأفرادًا، وقد أرّخ الزهري لهجرة المصطفى –صلى الله عليه وسلم– فقال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم– بعد الحج بقية ذي الحجة، ومحرم وصفر، ثم إن المشركين اجتمعوا –يعني على قتله– وقد تواترت الأخبار بأن خروج النبي –صلى الله عليه وسلم– من مكة كان يوم الأثنين، ودخوله المدينة كان يوم الأثنين. عقد زعماء قريش اجتماعًا خطيرًا في دار الندوة حيث تشاوروا في أضمن الوسائل للتخلص من الرسول –صلى الله عليه وسلم– وقد لخّص القرآن الكريم الآراء التي طرحوها في ذلك الاجتماع في قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)
بيّن حبر الأمة عبد الله بن عباس –رضي الله عنهما– حصار المشركين لبيت النبي –صلى الله عليه وسلم– ابتغاء قتله، ومبيت علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه– في فراشه، كما أورد خبر انتقال النبي –صلى الله عليه وسلم– إلى غار جبل ثور، وقيام المشركين بقص أثره إلى الغار، ورؤيتهم نسيج العنكبوت على مدخله، وتركهم التحري فيه، ولكن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج بها (1)

1  موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ” صلى الله عليه وسلم ” بإشراف د  صالح بن حميد ج  1 / ص : (257  258 )

هذه أمور عظيمة ضعي نفسك بهذا الوضع كل الأمة تريد الكيد بك، تريد الفتك بك، كيف يكون القلب؟ كيف يكون القلب؟ كيف تكون السكينة؟ هذا أمر عجيب تدبروا السيرة..
يا أخواتي تدبروا معية الله، وتثبيت الله لعبده قال تعالى: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين) النحل، 95 وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) الزمر، 36 وهذه الآية لكل مَن اتبع الرسول –صلى الله عليه وسلم– نصيب منها
يخرج الرسول –صلى الله عليه وسلم– وينام عنه علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– ويخرج من بين هؤلاء القوم، وينثر التراب على رؤوسهم، الله أكبر أسقط الله على رؤوسهم النوم! وسقطت هذه الرؤوس! وسقطت هذه السيوف! “لا إله إلا الله”
ما هو النوم؟ وما حقيقته؟ إنه جند من جند الله، ويأتي رسول الله وينثر على رؤوسهم التراب ليثبت لهم معية ربه وخالقه الذي هو يدعوهم إلى عبادته، ويخرج إلى غار ليس عليه حراس ولا دبابات غار مكشوف.
آيات معيته لأوليائه يأتون الناس الآن أين ذهب؟ أين ذهب؟ استنفار في مكة! يبحثون عنه، فيدخل الغار هو وأبو بكر –رضي الله عنه– ويقول: “يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا … غار مكشوف لا حصن ولا حراسة؛ فتنزل آيات التثبيت، والربط ما ظنك باثنين الله ثالثهما قال تعالى: (ألا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة، 40
يخرج فتستقبله يثرب مدينة كاملة كلها، أليس الله بكاف عبده؟ لهذا نسأل الله أن يرزقنا الثبات مع الصدق هذا من شروط “لا إله إلا الله” الصدق مع الله، واليقين بأن ما وعدك الله حق.

* أم موسى عليه السلام:
أم مكلومة أمام فرعون الطاغية، في قصص القرآن آيات وعبر قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) يوسف، 3
فرعون الذي يأمر بقتل الاطفال، أم عندها طفل فلذة كبدها إن سلمته لفرعون قتله، ويأتيها الأمر الرباني قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) القصص ،7 “لا إله إلا الله” يتقطع قلبي عليه أرميه! وفي البحر! نعم أرميه أمر الله ولهذا لوما كان عندها إيمان، وتوكل ما استطاعت أن تفعل؛ فالأمر ليس سهلا، انظري لحال الأم لو كان ابنها يعاني من ألم شوكة ما استطاعت النوم؛ فكيف بالأم التي تُؤمر برمي ابنها في البحر؟ رضيع لا يملك حول ولا قوة، ولا يقدر حتى أن يبعد عن نفسه حتى الذباب، كيف يأكل يا رب؟ كيف يشرب؟ ضعيه في التابوت، واتركيه فقط أنتِ اتبعي أمر ربك؛ فامتثلت للأمر الرباني قال الله عنها: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) القصص، 10 وصلت إلى أعلى درجات الوجد والحزن أصبح فؤادها فارغًا انظري الوصف للقلب حتى أن القرآن وصفه بفؤاد الولد ثمرة الفؤاد، وأصبح فارغ لم يبقَ فيه إلا موسى كادت لتبدي به كادت تقول: يا ناس هذا ولدي وأنا أمه لكن ماذا؟ (لولا أن ربطنا على قلبها) جاء الربط والتثبيت لكن ربط الله على قلبها لأنها كانت امرأة ولية صادقة صديقة –رضي الله عنها– تدبري نساء القرآن، وتتبعي صفاتهم، هل يرجع موسى أم لم يرجع؟ ووصل التابوت بأمر الله تعالى إلى قصر فرعون، وكانت آسية –عليها السلام– جالسة على البحر وهي امرأة لم ترزق بالذرية وزوجة فرعون فتنظر إلى هذا التابوت فجاءت الخادمات به ففتحوه فإذا به هذا الغلام الذي كالبدر نبي من أنبياء الله قالت لفرعون قرة عين لي ولك وفي لحظات انقلب هذا القصر الملكي كله في خدمة هذا الولد الذي يخشى منه فرعون الذي كان قبل قليل يريد أن يقتله والتمسوا له المراضع، وأحضروا من يرضعه فبدأت أخته تقص الخبر، وتمر عليه أمور لم تخطر على بال، الآن الملكة والملك والقصر كلهم كيف يربون هذا الغلام؟ وكيف يعتنون به؟ هذه آيات الربوبية، وعظمة الله، وقدرته سبحانه.
وإذا بالأم تأتي، وترضع الولد قال تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) القصص، 12-13
هذه من آيات الله قدرة ربانية ما يرضع من امرأة غير أمه، مشكلة الولد لا بد أن يُرضع، والملكة مشغولة بالولد؛ فتأتي الأم فما أن شم ريحها؛ فمسك الثدي والتقمه. الآن أم موسى أصبحت في منزلة عالية، وأصبحوا يرجون منها أن تجلس في القصر من أجل أن ترضع الولد قالت: لا أنا امرأة ذات زوج سأذهب به إلى بيتي، والآيات كثيرة لو يطول بنا الحديث.

*قصة مريم عليها السلام:
تلك المؤمنة الصالحة العابدة التي قامت في محرابها ما فترت طرفة عين، ولهذا ابتلاها الله، ورزقها الله الولد من غير زوج، وهذه بلية ومحنة مرت بها –عليها السلام– إلى درجة أنها تمنت الموت قال تعالى: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) مريم، 23 فوصل بها الحال إلى درجة يا رب ماذا أقول أمام الناس؟ وأنا المرأة التي لم أعرف الفاحشة، ولم يمسسني بشر، ولم أكن بغيًا قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آل عمران، 42
امرأة فاقت الرجال لكن الله ابتلاها، ولما جاءت المحنة، وجاء البلاء، وهي في الكرب والطلق وقرب الولادة، والمرأة في الولادة امرأة خائفة حزينة تريد أخت بجانبها، تريد أمها تثبتها تطمئن قلبها، تحضر لها الطعام، وهي في حال لا يعلمه إلا الله، ما النتائج بعد ذلك؟ ماذا قال الله لها؟ قال تعالى: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) مريم، 24-26 يا مريم الناس دعيهم لا تحملي هم ومواجهتهم الله يتولاهم، أنتِ كلي، واشربي، وقري عينك، “الله أكبر” فجعل الله الطفل ينطق وجعله آية للعالمين.
وهذه أمثلة لمعية الله لأوليائه –سبحانه تعالى– والقصص تطول وتطول لولا ضيق الوقت؛ فلهذا اطلبي الإيمان، اطلبي مكملات الإيمان، اطلبي غذاء الإيمان، وأاطلبي غذاء الروح في القرآن في ذكره وقيام الليل، فإذا ضاقت بك أبواب الخلق اطرقي باب الخالق سبحانه، وهذا الأساس العظيم.

الركيزة الثانية: التوكل على الله:

التوكل هو  من أعمال القلوب العظيمة، ومن أعظم الواجبات، وحقيقته اعتماد القلب على الله وحده، وهو طريق العبادة، ووسيلتها؛ فلا عبادة دون توكل، واستعانة، وإذا وصل العبد إلى تحقيق معنى التوكل؛ فقد وصل إلى مقام خواص الأولياء من العلماء الربانيين، ومن سار على نهجهم، وكلما زاد إيمانه، ويقينه، وعبادته ازدادت حاجته إلى التوكل قال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التغابن، 13 (1)
والتوكل علاج أمور كثيرة منها:  خوفه من الناس، خوفه من المستقبل، خوفه من أن يفوته الحق، خوفه مع نفسه –يعني تلقى الإنسان بين نارين– حزنه على الماضي، وخوف من المستقبل …إلخ.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:  “أي كافِيه، ومن كان الله كافيه وواقيه؛ فلا مطمع فيه لعدوِّه، ولا يضره إلا بأذًى لا بد منه كالحر والبرد، والجوع والعطش وأما أن يضرَّه بما يبلغ به مراده؛ فلا يكون أبدًا، وهذا أعظم جزاءً أن جعل الله تعالى نفسه جزاء المتوكل عليه، وكفايته؛ فلو توكَّل العبد على الله حقَّ توكُّله، وكادته السموات والأرض، ومن فيهنَّ، لجعل الله له مخرجًا، وكفاه رزقه، ونصره” (2)

………………………………………………………………………………..

1  مكايد الشيطان في مسائل الاعتقاد . ص: 804) د.قذلة محمد القحطاني ..
2  بدائع الفوائد / ابن القيم رحمه الله تعالى ؟ 2 / 465 )

والحديث: (إذا خرج الرجل من باب بيته، كان معه ملكان موكلان به، فإذا قال: بسم الله، قالا: هُديت، فإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قالا: وُقِيت، فإذا قال: توكَّلت على الله، قالا: كُفِيت، قال: فيَلقاه قريناه، فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هُدي ووُقي وكُفِي”
وتأملي القرآن فيه قواعد قال الله عز وجل: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) طه، 124 وقال الله عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل، 97
وهنا قسم من الله أن يحييه حياتًا طيبة، وما ظنكم يا أخواتي رب العالمين يقسم أن يحييكم حياتًا طيبة.

* تأملي القرآن قصة نوح عليه السلام:
في نوح –عليه السلام– عندما نصب له المكايد (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ) يونس، 71 فإن أعرض عنك الخلق قال تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) التوبة، 129 فإن ضايقك الخلق أيها الداعية، وأعرض الناس عنك، وقد يسبونك، وقد يطعنونك؛ فتذكر هذه الآية تذكر أنك في توكلك على الله تنال محبته قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران، 159 فإن طلبت الصلح، وطلبت أن تصلح بين الناس قال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الأنفال، 61
فتوكل على الله؛ يفتح لك القلوب، يسهل لك الله الأمور، يسهلها إذا خشيت عدوك الشيطان الذي يوسوس لك، ويصدك عن الطريق؛ فتذكر قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل، 99-100

………………………………………………………………………………..

1 / رواه الترمذي _ 3426  وابن ماجه ، وأحمد ، أبو داود _ 5095

المتوكل شخص قوي لا تستطيع عليه شياطين الأنس، ولا شياطين الجن ولهذا السبعون ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ما هي صفاتهم؟ لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون؛ فجماع الأمر كله التوكل على الله.

*هود عليه السلام:
تحدى الأمة بالتوكل قال تعالى: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هود، 55 فكلهم وقفوا أمامه لم يستطيعوا أن يمسوه بسوء هذا التوكل  لا نتوكل على الخلق، ولا نرجو الخلق، وننسى الخالق، ونخشى الخلق؛ فالتوكل على الله في جلب المنفعة، ودفع المضرة، وأعظم توكل على الله: أن تتوكل على الله في حصول الإيمان، وحصول ما يحبه الله، ويرضاه، وحصول الدعوة، ونشر الدين، هذا الأمر العظيم الذي إذا حصل لقلبك كفاك الله الثاني؛ فإذا كانت الآخرة همك كفاك الله ما أهمك من أمور الدنيا، لماذا هذا يتوكل على هذا، ويخاف من هذا، ويخاف من السحرة، ويخاف من الكهنة، ويخاف من الخلق، ويخاف من الحساد، وأعظم شيء تدفع به خطر الحاسد، وخطر من يؤذيك بتوكلك على الله، وتجريد التوحيد، ولهذا المتوكل من أشرح الناس صدرا.

لا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) ما معنى حسبه؟ أي: كافيه، لا بد من معالجة هذا في قلوبنا، وهذا أعظم عوامل السعادة في قلب المؤمن أن يتوكل على الله، وأن يحقق هذا التوكل، وأن يعلم أنه لا يدفع الضر إلا الله، ولا يجلب النفع إلا الله، والخلق بشر مثلهم مثلك؛ فإذا ارتكزت هذه الركيزة العظيمة؛ لن يستطيع أحد أن يصل إلى قلبك وسعادتك.
السلف كانوا يتوكلون على الله في أبسط الأشياء حتى كانوا يسألون الله الملح في الطعام، ويسأل الله الواحد منهم في شرك نعله إذا انقطع سأل الله أن يصلحه نرى الأمراض المنتشرة، هذه فيروسات لا ترى بالعين المجردة هذه جند من جنود الله أحيانًا تتسلط عليك بعض الحشرات في البيت مثل النمل لا تستطع أن تبعدها، وروى ابن أبي الدنيا في التوكل أن عامل أفريقيا كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو إليه الهوام، والعقارب فكتب إليه “وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول وما لنا ألا نتوكل على الله” (1)

………………………………………………………………………………..

1  غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب  محمد أحمد السفاريني  ج 2 (ص : 50 )

نتوكل على الله في دفع البلاء، ودفع الأمراض، هذه كورونا، وقبلها إنفلونزا الطيور، والخنازير، أين نذهب إلا لله؟ ليس لنا إلا الله، ولهذا يتطلع الناس إلى الأدوية، والعلاج، والتطعيم؛ فإذا انقطعت السبل توكلنا على الله إضرارًا؛ فيحصل الفرج.
ولهذا أخواتي اجعلي عقيدتك بالله عظيمة، فأنتِ تؤين إلى ركن شديد!! لكن الله المستعان ضعف التوكل، وضعف القلب أصبح لا يتحمل؛ فصار الإنسان يخاف الفقر، ويخاف العدو، ويخاف الحسد، والسحر، والموت!!
فتجد القلب.. مشتت.. مهموم.. لا يوجد استقرار؛ فنسأل الله أن ينزل السكينة على قلوبنا وقلوبكم ، إذا رأيت نفسك مشتت فاذكر الله قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إنه حضر شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية ذات مرة فصلى الفجر ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إلي وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغذاء سقطت قوتي”. (1)
ابدئي مشروعك مع الله بعد صلاة الفجر، اجلسي بعد الفجر اقرئي أذكار الصلاة، ثم أذكار الصباح، واقرئي ما تيسر من القرآن، قولي “لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير” مئة مرة أو مئتين مرة، سبحي، واستغفري مائة مرة، ثم ركعتي الضحى، ثم انظري إلى قلبك بعد ذلك ستكونين بإذن الله من أشرح الناس صدرًا في هذا اليوم كله هذه غدوة الروح.
كان شيخ الإسلام يجلس في مصلاه بعد الفجر إلى أن ينتصف النهار ويقول: “هذه غدوتي ولو لم اتغذى لسقطت قوتي” فكيف بحالنا مع ضعف الإيمان، وقلة الذكر، وقلة قراءة القرآن، والقلب مشتت، محبوس، … قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) الحجر، 97-99 فهذان علاجان من القرآن للضيق، يضيق صدرك من كلام الناس! أكبر مشاكلنا ماذا يقول الناس؟ سوف تموت وحدك، وتُبعث وحدك، وتُحاسب وحدك، وتدخل الجنة وحدك.

2 الوابل الصيب لابن القيم رحمه الله ( ص 39 40)

كتب معاوية إلى عائشة –رضي الله عنهما– أنِ اكتُبي لي كتابًا توصيني فيه، ولا تُكثري عليَّ؛ فكتبت إليه: “سلامٌ عليك، أما بعد، فإني سمِعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم– يقول: ((مَن الْتمَس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومَن التمس رضاء الناس بسخط الله، وَكَله الله إلى الناس)) (1)

ولهذا نسأل الله أن يرحمنا، الآن منكرات تُرتكب، ومعاصي كلها من أجل الناس حتى أن بعضهم يتباهى بالمعاصي في الزواج من أجل الناس!! فأصبحنا نرضي الناس بسخط الله؛ فخُذلنا لأن الله أوكل العبد إلى نفسه ما دام أنك  تطلب رضا الخلق دافع عن نفسك.

الركيزة الثالثة:  الصبر:
تدبروا القرآن قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) الروم، 60 وقال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) الأحقاف، 35 وقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم، 48 وقال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) المزمل، 10 وقال تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا) المعارج، 5 وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الطور، 48 وقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) الإنسان، 24 وقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) البقرة، 45 وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة، 153 وقال تعالى: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) المدثر، : 7 وقال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون) البقرة، 177 وقال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ) النحل، 127

……………………………………………………………………………….

[1] أخرجه الترمذي (2414) عن رجل من أهل المدينة، ولم يُسمِّ الرجل – وهو ضعيف لجهالة الرجل الذي لم يُسمَّ – وأخرجه بإثر الحديث المرفوع من طريق سفيان الثوري عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية… فذكر الحديث بمعناه، ولم يرفعه، وسنده صحيح. وأخرج ابن حبان في “صحيحه” المرفوع منه فقط (276)، ولفظه: قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم–: (مَن التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومَن التمَس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)؛ وإسناده حسن.

قال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) طه، 130
آيات عظيمة في القرآن كلها تدل على الصبر، ولذلك أكثر مآسينا، وأحزاننا من كلمة “لو” أني فعلت كذا ما وقع كذا، لو من عمل الشيطان، وتمكن الشيطان من القلب، وتشعل فيه نار الحسرات، والألآم.!
إن أردتِ السعادة الزمي الصبر:
الصبر على طاعة الله.
الصبر عن معاصي الله.
الصبر على أقدار الله المؤلمة.
من رضي؛ فله الرضا، ومن سخط؛ فله السخط، وتجد القلب حزن وحزن …
ولهذا أخواتي هناك قاعدة أي أمر في حياتك العامة، وفي حياتك الخاصة، وأي مصيبة حدثت لك؛ فاعلمي أن هذا قدر كتبه الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلن تستطيعي أن تقدمي شيء، ولا أن تزيلي شيء فلِمَ الحزن؟ كل شيء بقضاء الله وقدره، مجلسنا هذا اليوم، ولقاءنا هذا علمه الله، وكتبه، وشاءه، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
كذلك كل أمورك “زواجك، أولادك، حياتك، مشاكلك، مَن فقدتي من أحبابك، هذه أقدار الله إذا وقع القدر قولي “قدر الله، وما شاء فعل” إياكِ أن تدخلي قلبك (لو)، تسليم لأمر الله، عن صهيب –رضي الله عنه– قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلك لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ). رواه مسلم برقم (2999)

أسباب انشراح الصدر:
قال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). الشرح.
وأختم محاضرتي بفائدة عظيمة لابن القيم –رحمه الله تعالى– في أسباب انشراح الصدور قال رحمه الله: “فَأَعْظَمُ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ التَّوْحِيدُ، وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ، وَقُوَّتِهِ، وَزِيَادَتِهِ؛ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) الزمر: 22
وَقَالَ تَعَالَى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) الْأَنْعَامِ 125
فَالْهُدَى وَالتَّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ، وَالشِّرْكُ وَالضَّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ، وإحراجه، وَمِنْهَا: النُّورُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُوَسِّعُهُ، وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ، فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النُّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ، وَحَرَجَ، وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ، وَأَصْعَبِهِ.
وَقَدْ رَوَى الترمذي فِي “جَامِعِهِ” عَنِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا دَخَلَ النُّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ، وَانْشَرَحَ. قَالُوا: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ، والاستعداد لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ).
فَيُصِيبُ الْعَبْدَ مِنِ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِحَسَبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا النُّورِ، وَكَذَلِكَ النُّورُ الْحِسِّيُّ، وَالظُّلْمَةُ الْحِسِّيَّةُ، هَذِهِ تَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَهَذِهِ تُضَيِّقُهُ… وَمِنْهَا: الْعِلْمُ، فَإِنَّهُ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُوَسِّعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا، وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضِّيقَ، وَالْحَصْرَ، وَالْحَبْسَ؛ فَكُلَّمَا اتَّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتَّسَعَ، وَلَيْسَ هَذَا لِكُلِّ عِلْمٍ بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرَّسُولِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم– وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ؛ فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا، وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا.
وَمِنْهَا: الْإِنَابَةُ إِلَى اللَّهِ –سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى– وَمَحَبَّتُهُ بِكُلِ الْقَلْبِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالتَّنَعُّمُ بِعِبَادَتِهِ، فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا: إِنْ كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنِّي إِذًا فِي عَيْشٍ طَيِب، وَلِلْمَحَبَّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَطِيبِ النَّفْسِ، وَنَعِيمِ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ حِسٌ بِهِ، وَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ أَقْوَى، وَأَشَدَّ كَانَ الصَّدْرُ أَفْسَحَ، وَأَشْرَحَ، وَلَا يَضِيقُ إِلَّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطَّالِينَ الْفَارِغِينَ ، فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ، وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمَّى رُوحِهِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصَّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةُ سِوَاهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ، وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ، وَلَا أَكْسَفُ بَالًا، وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا، وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا، فَهُمَا مَحَبَّتَانِ: مَحَبَّةٌ هِيَ جَنَّةُ الدُّنْيَا، وَسُرُورُ النَّفْسِ، وَلَذَّةُ الْقَلْبِ، وَنَعِيمُ الرُّوحِ، وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا، وَقُرَّةُ عَيْنِهَا، وَهِيَ مَحَبَّةُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِكُلِّ الْقَلْبِ، وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْمَحَبَّةُ كُلُّهَا إِلَيْهِ. وَمَحَبَّةٌ هِيَ عَذَابُ الرُّوحِ، وَغَمُّ النَّفْسِ، وَسِجْنُ الْقَلْبِ، وَضِيقُ الصَّدْرِ، وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ، وَالنَّكَدِ، وَالْعَنَاءِ، وَهِيَ مَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصَّدْرِ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ؛ فَلِلذِّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، وَنَعِيمِ الْقَلْبِ، وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ، وَحَبْسِهِ، وَعَذَابِهِ.
وَمِنْهَا: الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ، وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالنَّفْعِ بِالْبَدَنِ، وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ؛ فَإِنَّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا، وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا، وَالْبَخِيلُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِحْسَانٌ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا، وَأَعْظَمُهُمْ همًّا وَغَمًّا.
وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– فِي الصَّحِيحِ مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّق كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ الْمُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ، وَانْبَسَطَتْ حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابَهُ، وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ، وَكُلَّمَا هَمَّ الْبَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ” فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدِّقِ، وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ، وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ، وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ.
وَمِنْهَا الشَّجَاعَةُ؛ فَإِنَّ الشُّجَاعَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ، وَاسِعُ الْبِطَانِ، مُتَّسِعُ الْقَلْبِ، وَالْجَبَانُ أَضْيَقُ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَحْصَرُهُمْ قَلْبًا، لَا فَرْحَةٌ لَهُ وَلَا سُرُورٌ، وَلَا لَذَّةٌ لَهُ، وَلَا نَعِيمٌ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ، وَأَمَّا سُرُورُ الرُّوحِ وَلَذَّتُهَا، وَنَعِيمُهَا، وَابْتِهَاجُهَا فَمُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ جَبَانٍ، كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى كُلِّ بَخِيلٍ، وَعَلَى كُلِّ مُعْرِضٍ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، غَافِلٍ عَنْ ذِكْرِهِ، جَاهِلٍ بِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ، وَدِينِهِ، مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ.
وَإِنَّ هَذَا النَّعِيمَ وَالسُّرُورَ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِيَاضًا، وَجَنَّةً، وَذَلِكَ الضِّيقُ، وَالْحَصْرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذَابًا، وَسِجْنًا. فَحَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصَّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا، وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا، وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضٍ، وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضٍ؛ فَإِنَّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ، فَهِيَ الْمِيزَانُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْهَا بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا: إِخْرَاجُ دَغَلِ الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي تُوجِبُ ضِيقَهُ، وَعَذَابَهُ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حُصُولِ الْبُرْءِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى الْأَسْبَابَ الَّتِي تَشْرَحُ صَدْرَهُ، وَلَمْ يُخْرِجْ تِلْكَ الْأَوْصَافَ الْمَذْمُومَةَ مِنْ قَلْبِهِ لَمْ يَحْظَ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِطَائِلٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَادَّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ، وَهُوَ لِلْمَادَّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا.
وَمِنْهَا: تَرْكُ فُضُولِ النَّظَرِ، وَالْكَلَامِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْمُخَالَطَة، وَالْأَكْلِ، وَالنَّوْمِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا، وَغُمُومًا، وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ، تَحْصُرُهُ، وَتَحْبِسُهُ، وَتُضَيِّقُهُ، وَيَتَعَذَّبُ بِهَا، بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمٍ، وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ، وَمَا أَسْوَأَ حَالَهُ، وَمَا أَشَدَ حَصْرِ قَلْبِهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمٍ، وَكَانَتْ هِمَّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا، حَائِمَةً حَوْلَهَا، فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) الانفطار، 13،  وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) الِانْفِطَارِ، 14 وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلِّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصَّدْرِ، وَاتِّسَاعُ الْقَلْبِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ، وَحَيَاةُ الرُّوحِ، فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشَّرْحِ، وَالْحَيَاةِ، وَقُرَّةِ الْعَيْنِ مَعَ مَا خُصَّ بِهِ مِنَ الشَّرْحِ الْحِسِّيِّ،، وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ، أَكْمَلُهُمُ انْشِرَاحًا، وَلَذَّةً، وَقُرَّةَ عَيْنٍ، وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ، وَلَذَّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ، وَرَفْعِ الذِّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ، وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ نَصِيبِهِمْ مِنَ اتِّبَاعِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللَّهِ لَهُمْ، وَعِصْمَتِهِ إِيَّاهُمْ، وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ، وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ، وَنَصْرِهِ لَهُمْ، بِحَسَبِ نَصِيبِهِمْ مِنَ الْمُتَابَعَةِ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ….”.

وصلى الله على نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا.

Scroll to Top