الحجاب سيما الثابتات في زمن المتغيرات

 

د. أميرة علي الصاعدي.

بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)، عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها، وروى ابن أبي حاتم عن عائشة -رضي الله عنها- لما نزلت (وليضربن بخمرهن) انقلب رجال من الأنصار إلى نسائهم يتلونها عليهن، فقامت كل امرأة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت بها، فأصبحن من الصبح وكأن على رؤوسهن الغربان.
هذه النصوص تبيّن لنا حال المؤمنات الصادقات مع أحكام الله حيث بادرن بالامتثال، واستجبن لأمر الله بدون تردد ولا تسويف، وهذا مصداق قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ث وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، قال القرطبي: “فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول”.
فليس لأحد مخالفة أمر الله فضلاً عن الاستهزاء به، أو الاستخفاف بمن التزم به، أو رده والإعراض عنه والعياذ بالله، قال النابلسي: “في قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) أن يعرفن بالعفة والتصون فلا يتعرض لهن الفساق ولا الفجار، وهذه قاعدة: وهي أن المرأة إذا بالغت في التحجب والتصون قطعت كل طمع فيها، إذ تعلن للناس أنها عفيفة، أنها حصان، أنها معرضة عن كل رغبة فيها”.
والمتأمل في حجاب النساء اليوم -إلا من رحم الله- يجد تفننًا في التزين، وتنافسًا في التبرج، وتغيرًا كبيرًا في سيما المتحجبات، فإلى وقت قريب كان الحجاب أقرب إلى العفة والصون، وأبعد عن الفتنة والشهرة، وكانت المتعلمات والمثقفات والأكاديميات وممن يحسبن على أهل الخير من أسبغ النساء حشمة، وأمثلهن التزامًا واحتشامًا، ولكن اليوم وللأسف عمّ الخطب واتسع الخرق، فضاقت العباءة وتخصرت، وسقطت من الأعلى وتعثرت، وضاع الغطاء وتاه في زحمة التغيرات، واندثر النقاب واختفى في طور التحسينات، وبقي اللثام لبعض المتحجبات على حياء، يسدلنه حينًا ويرفعنه أحيانًا، ويتخففن كالقواعد من النساء، ورحم الله حفصة بنت سيرين فعن عاصم الأحول قال: دخلت عليها وقد ألقت عليها ثيابها فقلت أليس يقول الله: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) قالت: اقرأ ما بعده (وإن يستعففن خير لهن)،
وفي المقابل لا تزال هناك ثلة مباركة، على الحق ثابتة، ورغم المتغيرات صامدة، لا يضرها المخذلون ولا المتلونون، تبتغي الأجور بنفس راضية مطواعة، وبإيمان راسخ كالجبال، لا تهزها الأعاصير، ولا تغرها الموضات وتطور الأزياء.
ومن العجب أن نجد بعض الكاتبات يحاربن المحجبات العفيفات، ويتهمن الآمرات بالمعروف والناهيات عن المنكر، ويسلطن أقلامهن للنيل من أهل الخير، فعجبًا ممن تحارب شرع الله وتعارض حكمه ثم تهاجم الثابتات في زمن المتغيرات، وهي لا تنتصر لدينها ولا تمتثل لحكم ربها، تلوي النصوص لتوافق هواها، وتمجد حرية الغرب ونساء الحرية.
فشتان بين من سارت في ركب أولياء الرحمن، تدعو إلى الله على بصيرة، وبين من كانت في حزب الشيطان وتدعو إلى التفلت والتحرر.
وسؤالي لمن تبدل حجابها وتغير جلبابها: هل كنت على خطأ فصححت حجابك؟ أم كنت على صواب فغيرت مسارك؟
وأهمس في أذنيك: بقدر ثباتك تكون نجاتك.
وأوصيك: قد يكون لنا عذر في تغيير لباسنا وتزيينه، وتبدل أثاثنا وتجديده، وتنوع طعامنا وتحسينه، لكن لا عذر لنا أمام الله في التنازل عن ثوابتنا ، والتخلي عن هويتنا، والاستغناء عن كمال العفة وجمال الحشمة.
في زمن المتغيرات تتخلخل الثوابت، وتندثر المبادئ، وتتبدل القيم، ويعود الإسلام غريبًا كما تنبأ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء)، وفي رواية قيل: يا رسول الله من الغرباء؟ قال: (الذين يصلحون إذا فسد الناس)، وفي لفظ (هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير).
ولكن تبقى العفيفات ثابتات في زمن المتغيرات، قائدات إلى الخير، داعيات على بصيرة
نسأل الله لهن الثبات، وللمقصرات الهداية والصلاح.

المصدر: صيد الفوائد.

Scroll to Top