مواقف حلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

مواقف حلف فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أبو محمد خميس السعيد محمد عبد الله.
الناشر: بيت الأفكار الدولية-بيروت، ط1، 1428 ه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الذي رفع قدر العلماء؛ فاستشهداهم على أعظم مشهود وهو التوحيد، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، إمام العلماء، وسيد الأولياء، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فإن أعظم ميراث ورّثه الأنبياء هو ميراث العلم، ولقد هيأ الله لهذا الميراث من يقوم به، ويبلغه للناس؛ رغبةً في الأجر، ورفعةً في القدر، ومغفرة للوزر.
ومن المعلوم أن الحاجة إلى العلم أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب؛ لأن الحاجة إلى الطعام والشراب محدودة، والحاجة إلى العلم غير محدودة، وممن نحسبهم من طلاب العلم الذين واصلوا على التعلم والتعليم الأخ الفاضل “خميس السعيد محمد”، الذي كتب كتابه الموسوم ب”مواقف حلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم”.
وقد قرأت بعض فصوله، فوجدته من العلم المؤصّل الذي يستند على الدليل المقنع، الذي تحتاجه الأمة اليوم، وقد بذل فيه جهده، وعمر به وقته؛ ليخرج للناس زادًا يتزودون به في سيرهم إلى الله، والدار الآخرة.
ولقد أحسن الشيخ خميس السعيد في كتابه هذا، والذي بيّن فيه مواقف عظيمة حلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم وشدّد فيها بيمينه؛ حرصًا منه صلى الله عليه وسلم على هداية أتباعه، وترغيبًا لهم في الخير، فتارة يقسم أنه ودّ أن يقتل ثم يحيا، ثم يقتل في سبيل الله ثم يحيا، وفي هذا ترغيبًا لأصحابه على الجهاد في سبيل الله، وتارة يحلف أنه ما يخشى الفقر على أصحابه بل يخشى أن تفتح الدنيا على أتباعه، وفي هذا تحذير لهم من مزالق الدنيا وفتنتها، وهكذا … فهو صلى الله عليه وسلم يحلف لمن اتبعه فيرغّبهم في الخير، أو ليدفع عنهم الشر، أو ليفقههم في الدين، أو ليخبرهم بنبأ من سبقهم ليتعظوا وهكذا.
أسأل الله تعالى أن تكون هذه الرسالة علاجًا لما استفحل من كثرة الحلف بلا داعية إلى ذلك، والتجرؤ على الأيمان جزافًا بلا مصلحة ظاهرة، وأن يعين الله بها ما انتشر من أيمان كاذبة والعياذ بالله.
أسأل الله تعالى أن يجزي الشيخ خميس السعيد خيرًا على كتابه هذا، وأن ينفع به، وأن يجعله من العمل الخالص الباقي له بعد الموت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
قاله وكتبه: سعد بن سعيد الحجري.
الاثنين 7/5/1425 ه.

مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمّي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن سلك طريقه واقتفى أثره إلى يوم الدين،

أما بعد:
فإن شخصية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم مدرسة شرعية مترامية البنيان، تربّى في أحضانها كل مخلص لهذا الدين؛ فهو صلى الله عليه وسلم قائدنا، ومربينا، ومعلمنا جميع المبادئ السامية، والعلوم الشرعية النافعة، والتوجيهات النبوية الرائدة؛ فلقد تربى على يديه العلماء والمربون والمصلحون، وورثوا عنه العلم النافع؛ فالأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورّثوا العلم، فالعلماء إذا ورثة الأنبياء.
تعلّم العلماء من المنهل العذب النديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلموا العلم من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وسائر أحواله، وكانوا بذلك مصابيح الدجى، ومشاعل الهدى للناس كافة.
وتربّى العبّاد والزهّاد في مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتأثروا ببكائه، وخوفه، وحزنه، وطول قيامه، وكثرة ذكره لربه وابتهاله؛ فزكت نفوسهم، وخشعت جوارحهم، وسالت دموعهم، وباتوا لربهم سجدًا وقيامًا يرجون رحمته، ويخافون عذابه.
وتعلم منه القادة والزعماء والوجهاء من سياسته الشرعية، ووفرة عقله، وفرط ذكائه في قيادة دفّة الأمة، والتعامل مع الأعداء، وتأليفه لقلوبهم، وفقه التعامل مع الغير أيًا كان هذا الإنسان.
وأيضًا نال الخلق كلهم من خلقه وسمته، وحسن معاشرته الشيء الكثير؛ فحياته صلى الله عليه وسلم ميدان من الميادين الثرّة، بل إن ميدان حياته صلى الله عليه وسلم يجمع كل النظم والميادين الأخلاقية والاجتماعية، وقبلها الشرعية وكذا الحياتية؛ فهو صلى الله عليه وسلم نور، وهدى، ورحمة، وبشير ونذير ويكفي قول الله الله تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر: 7، وكذا قوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) النساء: 80، وأيضًا قوله تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) النجم: 3-6.
ونحن هنا نقطف من حياته وأقواله صلى الله عليه وسلم قطفًا وغصنًا باسقًا نهتدي بهديه، ونقتفي أثره، ونتعلم من توجيهاته، ونلزم تأكيداته التي وردت على لسانه، وهذا جانب مهم نتعلمه هنا في هذه الرسالة من حياة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على هداية الأمة، وهذا ما سنراه واضحًا بإذن الله في هذه الرسالة، والتي جمعت فيها جانبًا من جوانب قسمه وتأكيداته بحلفه العظيم لأمته على أمور خلقوا من أجلها، ومهام شرعية يستحثهم عليها، ويأمرهم فيها بطاعة الله تعالى، ويقرّر لهم فيها العقيدة الصافية التي يجب على كل مسلم أن يدين بها، ويحيا من أجلها.
إن الكلام النبوي حديث عزيز على النفس، يجب على العباد امتثاله، والاستضاءة بنوره، والاهتداء بهديه، فإذا كان هذا الحديث النبوي مشفوعًا بقسم محمّدي، وبيمين غضّ طري، يخرج من مشكاة النبوة، كان امتثال هذا المقرّر، والتخلق بمقتضى ما حلف عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأكّده بقسمه آكد وأوجب.
فعلى كل مسلم أن يتنبّه لهذه الفائدة، وأن يتأمّل مليًا ما يشوّفنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب المثير للانتباه، ولا شك أن ما أولاه الحبيب صلى الله عليه وسلم اهتمامًا زائدًا عن غيره لا بد وأن نوليه نحن كذلك اهتمامنا، وتقديرنا، وسرعة امتثالنا.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل ما جمعته، وكتبته، ورتبته في ميزان حسناتي، وحسنة كاملة لي عنده في حياتي وبعد وفاتي، وأن يغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، ولجميع المسلمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيد الخلق محمد، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبو محمد خميس السعيد محمد عبد الله-مصر-كفر الشيخ، الأحد 9/5/1425 ه 27/6/2004 م.

الفصل الأول: مقدمة مختصرة عن الحلف ووقفات هامة مع حلف النبي صلى الله عليه وسلم.

وقفات مع حلف النبي صلى الله عليه وسلم:
الوقفة الأولى- عظم شأن المحلوف عليه:
اعلم أخي المسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف على شيء فهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على عظمة المحلوف عليه، وخطورته وأهميته؛ فلا بد أن تهتم بذلك الأمر الذي أقسم عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلو حلف مثلاً على حرمة دم المسلم كما سيأتي معنا في الرسالة بقوله: (والذي لا إله غيره! لا يحل دم امرئ مسلم … إلا …)، كان ذلك اليمين سببًا عظيمًا في تحريم دم المسلم، فعلى المسلم ساعتها أن يحذر كل الحذر من الوقوع في هذا الموبق الخطير، ولو حلف مثلاً على أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن) -كما سيأتي أيضًا بعون الله- كان ذلك حافزًا كبيرًا على قراءة هذه السورة العظيمة وقراءة تفسيرها والوقف على معانيها، والامتثال لأوامرها، والتسليم بمقتضاها، وهكذا، فإن يمينه صلى الله عليه وسلم إما يحذر العباد من أمر يخشى عليهم عاقبته؛ فعندئذ يجب علينا الحذر من مغبة الوقوع فيما حذّرنا منه، وإما أن يكون حلفه على أمر أو طاعة أو عمل صالح يرجو من أتباعه امتثاله والتخلق به وطاعته، وكذلك طاعة الله فيه؛ فيجب علينا سرعة الامتثال؛ لأن يمينه صلى الله عليه وسلم على ما أكّد بأمر هذه العبادة ليس بالشيء الهين، وإما أن يكون قسمه وحلفه صلى الله عليه وسلم لتقرير أمر ما، أو غرس عقيدة ما في نفوس أتباعه؛ فيجب علينا كذلك الإيمان بذلك، واليقين بما نبّه عليه بقسمه؛ لأن يمينه كذلك صلى الله عليه وسلم ليس بالأمر السهل، فلا يتسنى لنا إهمال هذه المؤكدات النبوية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا بخيري الدنيا والآخرة؛ فعليك أخي أن تستحضر هذا المعنى عند كل موقف تقرأه في هذه الرسالة، وهذا يغني عن التكرار هناك وراء كل حديث حلف فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

الوقفة الثانية- شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته:
وهذه الوقفة المهمة، وتلك الفائدة الملموسة يحسها المرء إذا ما قرأ كل حديث أقسم فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت تشعر أن في طيات هذا القسم، همّ كبير، وخوف عظيم على عباد الله وأمّته، فهو يرجو لهم الخير، ويخشى عليهم من العذاب، ويتمنى لهم رضا الرحمن؛ لذلك كان يريد صلى الله عليه وسلم أن يثبّت لهم الحقائق الشرعية، ويلفت أنظارهم إليها بأي وسيلة كانت، ومن هذا المنطلق وغيره جاء يمينه وحلفه حتى يوقظ ضمائر أمته، ويستثير عزمهم إلى صراط الله المستقيم؛ فتذكر هذه الفائدة كذلك عند كل موقف تقرأه.

الوقفة الثالثة- للمرء الحلف بدون استحلاف:
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت أيمانه بدون استحلاف من أحد، ولكنه كان يعلم أهمية الموقف الذي يحلف فيه، ويعرف عظمة ما يحلف عليه؛ لذا كان صلى الله عليه وسلم لا يتهيّب من ذلك، لأن له صلى الله عليه وسلم نيّة صالحة فيما يحلف عليه؛ فهو يريد من وراء ذلك هداية الأمة بهذا التأكيد العظيم.

الوقفة الرابعة- جواز تعدد صيغ الحلف:
وهذا مشاهد من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في حلفه فنراه تارة يحلف بقوله (والذي نفسي بيده) وأخرى يقول: (والذي نفس محمد بيده) ومرة أخرى يحلف صلى الله عليه وسلم بقوله: (والله) وغيرها (والله الذي لا إله غيره) وأيضًا أحيانًا يقول: (وأيم الله)؛ فلا ضير في تعدد صيغ الحلف ما دام أن الحلف يكون بالله تعالى.

الوقفة الخامسة- أهمية أسلوب القسم في الدعوة إلى الله:
إن القسم له فائدة كبيرة في تأكيد الكلام، وإعطائه أهمية كبيرة لدى المستمعين؛ فهو يستثير حواسهم لما سيأتي بعد هذا القسم؛ لذا استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلى معلمي الخير أن يستخدموا هذا الأسلوب، ويهتموا به، ويكون لهم في ذلك نية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتطبيق سنته، ومع ذلك ينبغي عدم الإفراط في ذلك الأمر، فالبعض يقسم ما يقرب من عشر مرات في المحاضرة أو الدرس أو الكلمة الواحدة بعد الصلاة، وهذا أمر ربما يسبب نفور البعض من هذا الإكثار؛ بل عليه أن يستخدم هذا الأسلوب بذكاء وبطريقة توقظ الهمة، وتنشط الفاتر الكسلان.

حكم اليمين وكفارته (1):
هذه آية من سورة المائدة أود أن يحفظها ويعرف أحكامها كل مسلم؛ لأن الناس في أيامنا يحلفوا ويحنثوا، أي لا يوفوا بما حلفوا عليه، وهنا يوقعهم الحلف في معصية الله، إن لم يعرفوا أحكام اليمين ويؤدوا ما عليهم من حقها، قال تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) المائدة: 88، هذه الآية واسعة الأحكام، حتى لقد ذكر القرطبي -رحمه الله- في تفسيرها سبعًا وستين مسألة، ولكني مورد هنا خلاصة مركزة فأقول وبالله التوفيق:
مسائل“:
أولاً- كثرة الحلف بالله ولو صدقًا منقصة للمؤمنين؛ لأن الواثق بنفسه، الوازن لكلامه، العارف لمنزلته في الناس، يورد الحقائق بلا حلف حتى لا يكون حلافًا، وقد قرن الله جل وعلا كثرة الحلف بالمهانة؛ لأن الحلاف في نظر الناس محتقر يستغل اسم الله استغلالاً غير مؤدب.
ثانيًا- الحلف بغير الله ممنوع؛ لأنه شرك، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء وبأي شيء غير الله، وصفاته مهما عظم حتى الحلف بالكعبة الشريفة، وذلك إمعانًا منه صلى الله عليه وسلم في حماية حمى التوحيد من أي شائبة شرك.
ثالثًا- قوله تعالى: (لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) يعني مثل قول الإنسان أثناء مناقشة عادية: لا والله، وإي بالله، والله أوحشتنا في غيبتك، والله ما بيننا تكلف … وهكذا، ومثل هذا اللغو يغفره الله بواسع عفوه، ولا يؤاخذ صاحبه.
رابعًا- قيل في سبب نزول الآية: إن جماعة من الصحابة سمعوا خطبة عظيمة التأثير هائلة الوعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا يبكون خطاياهم، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون رضي الله عنه حيث قرروا أن يهجروا لذائذ الطعام، ويهجروا النساء؛ فنزلت هذه الآية والآيتان اللتان قبلها: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) المائدة: 86-87.
خامسًا- ما كل يمين يقتضي أن تنفذه وتوفي به؛ فبعض الأيمان يكون الحنث بها واجبًا والوفاء بها حرامًا، ومثل هذه الأيمان كثيرة في هذه الأيام، ففي نوبة من نوبات الغضب وسيطرة الشيطان قد يقول رجل لامرأته: والله لا رأيت أمك بعد اليوم، أو والله لا دخلت بيت أبيك بعد الآن، أو يقول: والله لا أدخل بيت أخي ولو أن فيه ترياق الحياة، والله إن لقيت فلانًا لأضربنّه، أو يقول: والله لا أذوق الأكل إذا ذبحت لي ذبيحة، والله لا أدخل المسجد الذي إمامه فلان، والله إن لم تطلق امرأتك فلن أكلمك وغير ذلك من هذه الأيمان كثير، وكل هذه الأيمان حرام تنفيذها، وواجب أن تحنث بها وتكفر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف أن يعصي الله فلا يعصه).
سادسًا- ومن الأيمان التي لا تكفر ولكنها إثم يجب التوبة عنها ما تحلفه على ما مضى من الحوادث كأن تقول: والله اشتريت السيارة بعشرين ألفًا، وأنت قد اشتريتها بأقل أو أكثر، وكقول البائع: والله بعت أمثال هذه السلعة بمائة وهو لم يبعها بمائة، وكقول التاجر للزبون: والله راعيتك في هذه السلعة بعشرة ريالات وهو لم يراعه، مثل هذه الأيمان لا تكفر بمال يدفع، أو بصوم ولكن تكفر بالتوبة والإنابة والإقلاع عن الأيمان.
سابعًا- قوله تعالى: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ)، وقرئت: (عقدّتم الأيمان) بتخفيف القاف، وكلمة ما هنا مصدرية، فيكون المعنى ولكن يؤاخذكم بعقدكم الأيمان أي بالأيمان المقترنة بنية التنفيذ كأنها إبرام عقد فهذه التي تستوجب الكفارة.
ثامنًا- اليمين الغموس: هي التي يحلفها الإنسان وهو بها كاذب لكي يأكل مال أخيه بغير حق، كما يفعل أحد المتخاصمين حين يحلف كاذبًا ليأكل حق الآخر، وكما يحلف التاجر كاذبًا ليكسب ربحًا طائلاً بالحرام، وهذه اليمين في أصح الأقوال ليس لها كفارة من صدقة أو صوم، لكنها من أكبر الكبائر لما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أعرابي عن أكبر الكبائر فقال: (الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس) وهذه اليمين لا كفارة لها إلا التوبة الصادقة، وإرجاع ما اقتطع بها من الحقوق إلى أصحابها.
تاسعًا- من حلف قائلاً: أكون خارجًا من الإسلام إذا كلمت فلانًا، فعليه أن يكلمه وعليه الكفارة، وعليه التوبة النصوح عن مثل هذا اليمين الذي تقشعر له أبدان العقلاء.
عاشرًا- اليمين يجوز فيه التذكير والتأنيث فتقول: كفر عن اليمين الذي حلفته، كفر عن اليمين التي حلفتها.
أحد عشر- قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُم) يقتضي أن تجمع عشرة مساكين فتطعمهم وجبتين أو أن تحمل الطعام إلى بيوتهم، وقد يسأل كثير من الناس: إن الفقراء في هذه الأيام بفضل الله قلائل جدًا ويصعب جمعهم للطعام، والجواب: أنه يمكن أن يرسل إلى عشرة من الفقراء كل واحد عشرة ريالات كما يمكن أن يعطى بعض العائلات المستورة أو الأيتام بعض السكر والأرز والسمن والمأكولات المعلبة.
اثنا عشر- كلمة (أهليك) جمع أهل وهو ملحق بجمع المذكر السالم، ويعرب إعرابه، وكلمة كسوة تقرأ بكسر الكاف وضمها، وعلى من يريد الكفارة أن يطعم المساكين من أحسن ما يطعم أهله أو يكسو كل فرد منهم الكسوة الشائعة في المجتمع كما يكسو نفسه أو أحد أولاده.
ثلاثة عشر- لا تعطى الكفارة لغني، ولا يكفي أن يطعم المكفّر جيرانه، كما لا يجوز أن يصرفها إلى أرحامه الذين تجب عليه إعالتهم، ولا يجب إعطاؤها إلى مسكين واحد دفعة واحدة، فمن الأحسن أن يكون جزء للمساكين وجزء للفقراء وجزء للأيتام.
أربعة عشر- إذا مات الحالف ولم يكفر، وجب إخراج الكفارة من رأسماله قبل قسمة التركة.
خمسة عشر- من لم يستطع الكفارة يصوم ثلاثة أيام متتابعات أو غير متتابعات على خلاف بين الأشياخ.
ستة عشر- قوله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُم) أي احترسوا ولا تكثروا الحلف ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ وإذا حلفتم فاحفظوها بالكفارة السريعة الوافية.
اللهم ارزقنا الإيمان بك، والوفاء بعهدك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك.

التورية في اليمين:
التورية في اليمين تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول- أن يكون الحالف ظالمًا: مثل: أن يحلف على حق للغير، فهنا لا تنفعه التوراة وتكون يمينه على نية المستحلف، وقد حكى الإجماع على هذا، قال النووي رحمه الله: “فإذا ادعى رجل على رجل حقا فحلّفه القاضي وورى فنوى غير ما نوى القاضي انعقدت يمينه على ما نواه القاضي، ولا تنفعه التوراة، وهذا مجمع عليه”، والظالم لا تنفعه التوراة؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اليمين على نية المستحلف) (2)، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبا) (3)، وهذا يشمل الظالم المتأول وغير المتأول؛ ولأن الظالم لو نفعته التوراة لبطلت الفائدة المرجوة من اليمين.
القسم الثاني- أن يكون الحالف مظلومًا: مثل أن يحلف أمام ظالم يريد أن يظلمه في بدنه أو عرضه، أو ماله، أو يظلم غيره، فيوري في يمينه فتنفعه التوراة، أو يترتب على التوراة ضرورة أو مصلحة متعدية، كالتورية لإنجاء معصوم أو لإصلاح بين متخاصمين أو زوجين، أو في حال الحرب ونحو ذلك، ولقد فعل ذلك إبراهيم عليه السلام وهذا مشهور عنه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال أنس رضي الله عنه: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ونبي الله شاب لا يعرف قال: ويتلقى الرجل أبا بكر، فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديناي السبيل فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير (4)، ولما رواه سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأن القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنه أخي، قال: (صدقت! المسلم أخو المسلم) (5)، وفي رواية: (أنت كنت أبرّهم وأصدقهم .. المسلم أخو المسلم) (6).
القسم الثالث- إذا لم يكن الحالف ظالمًا ولا مظلومًا، ولم تترتب على التوراة ضرورة أو مصلحة متعدية؛ فاختلف العلماء رحمهم الله في التوراة في هذه الحال والراجح عدم جواز التوراة في هذه الحال؛ لما لليمين من حرمة إلا للضرورة، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله (7).

الفصل الثاني: مواقف حلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

تمهيد:
انظر أخي المسلم إلى هذه المواقف التي حلف فيها النبي صلى الله عليه وسلم وتأمّل فيها جيدًا، فسترى أن لكل موقف حلف فيه النبي صلى الله عليه وسلم عظمة وأهمية ينبغي على المسلم أن يقف عنده ويتفكر فيه؛ فالتأكيد بالقسم من الأمور الدعوية المهمة والتي ينبغي أن نتفطن له، وأن نستعمله في مكانه اللائق، ويكون له في ذلك نية الاقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم، وعلى من يكثر من الحلف في كل وقت بلا سبب حتى تراه ينطلق كالسهم في الحلف بلا تفكير، ودون أدنى أهمية عليه أن يهتم بنفسه، وينزّه لسانه عن هذه الثرثرة والتّجرء على لفظ الجلالة “الله” وأن يضع هذا اليمين في محلّه اللائق به، كأن يتهم في غرض فيبرئ نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فوَالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا) وكأن يدلّ إخوانه على خير، سواء أكان يرغبهم في الجنة، أو يحذرهم من النار، أو يرهبهم من فتنة الدنيا، أو يخوفهم من سكرات الموت، أو عذاب القبر؛ فلو أقسم على أمر من هذه الأمور لكان ذلك محمودًا له، مكتوبًا في سجل حسناته إن شاء الله.
وعليك أخي أن تتنبه لكل أمر حلف فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أنه من الأمور العظيمة، ومن الفوائد النادرة، ومن الحكم الباهرة، ومن الدروس النافعة، ومن المواضيع الماتعة، فتأمل فيها، واستخرج دررها وفوائدها، وانظر في حكمها وأسرارها، واحمد الله أن وفقك إليها؛ لتهتدي بهديها، وتسير على دربها، وتستنير بنورها؛ فالموفق والله من وفقه الله، والمخذول من خذله الله، نسأله التوفيق والسداد، والهداية إلى طريق الرشاد.

أفشوا السلام بينكم:
قال تعالى: (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) النساء: 86، قال السعدي رحمه الله: “التحية هي اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها، وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداءً وردًا، فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حيوا بأي تحية كانت أن يردوها بأحسن منها لفظًا وبشاشةً أو مثلها في ذلك، ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها، ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين:
أحدهما- أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا.
الثاني- ما يستفاد من أفعل التفضيل، وهو “أحسن” الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك.
أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أننا لن ندخل الجنة حتى نؤمن وأننا لن نؤمن حتى نتحاب، وأن التحاب يكون بإفشاء السلام بيننا؛ إذًا فإفشاء السلام سبب لدخول الجنة؛ لأنه يصفي النفوس، بل وينزع البغضاء والشحناء من القلوب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا: ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم) (8)، يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بمن نفسه بيده وهو: الله سبحانه على ثلاث قضايا:
الأولى- دخول الجنة بالإيمان.
الثانية- الإيمان بالتحاب.
الثالثة- إفشاء السلام سبيل التحاب، وإيثار هذه الصفة في القسم زيادة تأكيد لصدقه صلى الله عليه وسلم فيما أقسم عليه، وبيان لعظمة المقسم به، وسلطانه على المقسم.
* ما يستفاد من الحديث:
1- تعليق كمال الإيمان على المحبة في الله للدلالة على أهميتها.
2- صلاح العباد فيما بينهم لا يكون إلا بالحب في الله.
3- لن يدخل الجنة أحد إلا بالإيمان.
4- فيه الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرف منهم ومن لم يعرف.
5- السلام أول أسباب التأليف، ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض وإظهار شعارهم المميز لهم.
6- السلام شعار أهل الإسلام الذي يتميزون به عن غيرهم من الأمم.
7- تعويد النفس على التواضع وخفض الجناح لأهل الإيمان وإعظام حرمات المسلمين. فقد روى البخاري في صحيحه تعليقًا عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: “ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار”.
8- بذل السلام فيه رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا ينبع من هواه، ولا يخص أصحابه وأحبابه به (9).
9- الحديث رد على الذين يقسمون الدين إلى قشر ولباب، إذ أن السلام عندهم قشور لا ينبغي التدقيق عليه ولا الوقوف عنده كثيرًا؛ لأن في الأمة أمورًا تشغلها أعظم منه، وقد علّق دخول الجنة بالإيمان والإيمان معلق بالسلام، فهو حجة دامغة لوهمهم وقلة فهمهم (10.
10- ينبغي أن يكون الحب في الله ولله، وهذا هو الذي يثمر الإيمان، ويثمر المحبة الصادقة، والتقوى النافعة قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الزخ: 67؛ فالخلة التي أساسها التقوى والإيمان هي التي تورق شجرة التواصل والمحبة التي تدوم في الدنيا والآخرة، بخلاف المحبة الوهمية التي تبنى على المصالح والمنافع المادية، فهذه سرعان ما تزول وتنتهي، بل وفي كثير من الأحيان تنقلب إلى عداوة في الدنيا ظاهرة يعلمها الجميع، وهي في الآخرة عداوة أكيدة طالما فرّغت من مضمونها الشرعي الذي حث عليه الحبيب صلى الله عليه وسلم.

شقيّ أو سعيد:
قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) الحج: 5، قال الجزائري: “فقال: يا أيّها النّاس إن كنتم في ريب مّن البعث أي: في شك وحيرة وقلق نفسي من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا، فإليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم من تراب، أي خلق أصلكم وهو أبوكم آدم من تراب وبلا شك، ثم خلقكم أنتم من نطفة أي ماء الرجل، وماء المرأة وبلا شك، ثم من علقة بعد تحول النطفة إليها، ثم من مضغة بعد تحول العلقة إليها، وهذا بلا شك أيضًا، ثم المضغة إن شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلاً، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها من الرحم كما هو معروف ومشاهد”.
وفي هذا الموقف التالي يقص علينا رسول الله نبأ هذا التخليق أيضًا، ثم يتطرق إلى أمر آخر غاية في الخطورة، ويحلف عليه ويؤكد ذلك بقسمه ويمينه، فإلى هذا الموقف العظيم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله) (11)، صدق الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم! لأن مثل هذه الأمور لا يمكن له صلى الله عليه وسلم أن يعلمها إلا إذا أخبره الله بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) النجم: 3-4، وهذه الحقائق والتي فيها تقدير المدة من انتقال من طور إلى طور آخر كشف عنها النقاب في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم الحديثة إلى حدّ لا يخطر ببال أحد، وأثبتت حقيقة هذا الإعجاز النبوي والذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من ألف عام، وهذا يدل دلالة قاطعة على صدقه صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به وكذلك هذا الحديث علم من أعلام نبوته من هذا الجانب، كذلك من جانب آخر وقد جاء في رواية أخرى قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار) فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم، كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟ فقال رجل: لألزمنه، أي: أتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه -والعياذ بالله- ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (بِمَ) قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل منه كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار).
* ما يستفاد من الحديث:
1- حسن أسلوب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع التأكيدات.
3- تأكيد الخبر بما يدل على صدقه لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (وهو الصادق المصدوق).
4- أن الإنسان في بطن أمه يجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
5- أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يومًا.
6- حكمة الله عزّ وجلّ في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
7- أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، ووجهه: أن أصل بنى آدم بعد النطفة العلقة، والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
8- أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلّقة وغير مخلّقة بنص القرآن كما قال الله تعالى: (ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة) الحج: 5، لكن ما الذي يترتب على كونها مخلّقة أو غير مخلّقة؟ الجواب يترتب عليها مسائل:
أ- لو سقطت هذه المضغة غير مخلّقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاسًا، بل دم فساد.
ب- ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلّق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة؛ لأنه لا بد في قضاء العدة أن يكون الحمل مخلّقًا، ولا بد لثبوت النفاس من أن يكون الحمل مخلقًا، لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست آدميا، فلذلك لا نعدل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق إنسان.
9- أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر؛ لقوله: (ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)، وينبني على هذا:
أ- أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويسمى ويعق عنه؛ لأنه صار آدميًا إنسانًا فيثبت له حكم الكبير.
ب- أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن إسقاطه؛ لأن إسقاطه حينئذ يكون سببًا لهلاكه، ولا يجوز قتله وهو إنسان؛ فإن قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سببًا لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟ فالجواب: نقول: ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لا استحسان في مقابلة الشرع، فنقول: الثاني هو المتعين، بمعنى أنه لا يجوز إسقاطه حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت الأم، وقد يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان، وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم، والجواب على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
أولاً- قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت الأم ثم هلك هو، فالذي أهلكهما هو الله عز وجلّ أي ليس من فعلنا.
ثانيًا- لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لا سيما في وقتنا الحاضر، إذ من الممكن إجراء عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيا، وأيضًا: نقول لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله عز وجلّ لا يلزم أن تموت هي، فيخرج لأنه ميت وتبقى الأم.
الخلاصة: أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
10- عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون بهم ووكل بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا دليل على عناية الله تعالى بنا.
11- أن الروح في الجسد تنفخ نفخًا ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) التحريم: 12، لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن هذا من أمور الغيب.
12- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي حتى يقرب أجله تمامًا، وليس المعنى حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل؛ لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحًا كما جاء في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار)؛ لأنه أشكل على بعض الناس: كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فنقول: عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أي يدنو أجله، أي أنه قريب من الموت، (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار) فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه -والعياذ بالله- هوت به إلى الهاوية، أقول هذا لئلا يظن بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبدًا، فالله عز وجلّ أكرم من عبده، لكن لا بد من بلاء في القلب.
13- أن الروح جسم،؛ لأنه ينفخ فيحل في البدن، ولكن هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟ الجواب: لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى: (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الإسراء: 8.
14- أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون لقوله: (فيؤمر بأربع كلمات)، والأمر له هو الله عز وجل.
15- أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان؛ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ولكن هل معنى ذلك ألا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟ الجواب: بلى! نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
16- أن الملائكة يكتبون؛ فلو قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو العبرية، أو ما أشبه ذلك؟ فالجواب: السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلا نقول شيئًا، هذه الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟ الجواب: هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة، والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله، ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
17- أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما يفعله وهذا أمر مسلم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما ينفعنا وأن ندع ما يضرنا.
18- أن نهاية بني آدم أحد أمرين: إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود: 105، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) التغابن: 2، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من أهل السعادة إنه سميع قريب (12).

مالي وللدنيا:
خلق الله عز وجلّ الإنسان، وجعله خليفة في هذا الكون يعمره وينتفع بكل ما فيه وفق منهج رسمه له، وأرسل من أجل هذا المنهج النبيين مبشرين ومنذرين، وسخّر له كل ما يعينه على أداء دوره وواجبه من شمس وقمر، ونجوم، وجبال، وشجر، ودواب، وأرض وسماء وماء وهواء …إلخ، وحدّد له أجلاً معينًا يحقق فيه ما طلب منه، ثم جعل له دارًا أخرى -غير هذه الدار- يلقى فيها جزاء عمله من ثواب وعقاب، وجنة ونار، وما على العاقل -بعد ما تقدم- إلا أن يلقي الدنيا عن كاهله، وأن يطرحها وراءه ظهريًا، واضعًا نصب عينيه الآخرة التي هي دار القرار، وما قرّب إليها من قول وعمل، وإذا كان له أن يأخذ حظه من الدنيا فليكن ذلك بقدر، ووفقًا للمنهج الذي ارتضاه الله عز وجلّ لنا دينًا، ولئلا يطمئن الناس إلى الدنيا ويركنوا إليها، تاركين العمل للآخرة (13).
وحتى يتضح لك هذا المعنى، ويرتكز في ذهنك هذا المفهوم؛ فاقرأ بتمعن هذا الحديث الاتي:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: (مالي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) (14)، وفي رواية: (والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب)، بيّن النبي صلى الله عليه وسلم عمر الدنيا في جنب الآخرة، وأنه لا يعدو أن يكون ساعة من نهار، وحتى تستقر هذه الحقيقة في النفوس، ساق النبي صلى الله عليه وسلم حديثه هنا على طريق المثل فقال: ليس لي تعلق بالدنيا، وليس للدنيا تعلق بي، وكيف أتعلق بالدنيا وتتعلق الدنيا بي!
وما مثلي ومثلها إلا كمسافر ركب مطيته وسار في يوم هجير شديد قيظه، فلما اشتد به التعب نزل، فقال تحت شجرة فترة وجيزة لا تتجاوز الساعة ريثما ابتلع أنفاسه، وعاد إليه نشاطه، ثم راح وترك الشجرة مستأنفًا السير من جديد ليصل إلى نهاية رحلته (15).
* ما يستفاد من الحديث:
1- زهد الحبيب صلى الله عليه وسلم فعلينا الاقتداء، فها هو صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه، ويرفض أن يجعل له أصحابه فراشًا ليّنًا بينه وبين الأرض حتى يحمي جنبه ويقول لهم مالي وللدنيا! فصلى الله عليك أيها النبي، ماذا لو رأيت ما فتح علينا من الدنيا وخلودنا إليها، وحزننا على ما روي عنا منها؟ ماذا كنت تقول.
2- التركيز على الأمثال في الدعوة والتربية؛ لأنها تدفع عن الإنسان السأم والملل، وأيضًا تبرز له المعنى المعقول في صورة المحسوس المرئي فيتمكن من النفس ولا ينسى أبدًا، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) العنكبوت: 43.
3- الصبر على متاعب الحياة وآلامها حتى نلقى الله: وقد ألمح النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الفائدة التربوية، حين شبّه نفسه بمسافر فركب مطيته في يوم هجير شديد الحر، فلما اشتد به التعب نزل فاستراح ساعة ثم استأنف المسير متحملاً مشاق الرحلة ليعود إلى بيته وداره، وكذلك المسلم في الدنيا يلاقي كثيرًا من المشاق والمتاعب، بل كثيرًا ما يتعرض للمحن والبلايا، وواجبه أن يصبر، وأن يستعين بالله، وكلما اشتد به التعب استراح قليلاً ثم استأنف الطريق حتى يلقى ربه مؤمنًا صابرًا محتسبًا.
4- التزهيد في الدنيا، والتحذير من الركون إليها، والاطمئنان بها مع الغافلة عن لقاء الله والدار الآخرة، لأن الدنيا ليست بدار قرار، ومن هنا جاء على لسان مؤمن آل فرعون: (يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) غافر: 39، وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) النساء: 77، (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

والله لولا أنت ما اهتدينا:
قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْها، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) الأحزاب: 9-11، قال العلامة السعدي رحمه الله: يذكر تعالى عباده المؤمنين نعمته عليهم، ويحثهم على شكرها، حين جاءتهم جنود أهل مكة والحجاز من فوقهم، وأهل نجد من أسفل منهم، وتعاقدوا وتعاهدوا على استئصال الرسول والصحابة، وذلك في وقعة الخندق، ومالأتهم طوائف اليهود الذين حوالي المدينة، فجاؤوا بجنود عظيمة، وأمم كثيرة، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فحاصروا المدينة، واشتد الأمر، وبلغت القلوب الحناجر، حتى بلغ الظن من كثير من الناس كل مبلغ لما رأوا من الأسباب المستحكمة، والشدائد الشديدة، فلم يزل الحصار على المدينة مدة طويلة، والأمر كما وصف الله: (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) أي: الظنون السيئة، أن الله لا ينصر دينه ولا يتم كلمته، (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) بهذه الفتنة العظيمة (وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا) بالخوف والقلق والجوع ليتبين إيمانهم، ويزيد إيقانهم، فظهر ولله الحمد -من إيمانهم وشدة يقينهم ما فاقوا فيه الأولين والآخرين، وعند ما اشتد الكرب، وتفاقمت الشدائد، صار إيمانهم عين اليقين، (وَلَمَّا رَأَى الْمؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيمانًا وَتَسْلِيمًا) الأحزاب: 20، ورغم هذه الشدائد العظيمة التي أحيقت برسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج عن سجيته المعروفة، وشمائله المعلومة من تعاونه مع صحابته وتواضعه الذي حمله على مشاركتهم في صد العدو بالأسباب المتاحة من حفر الخندق معهم، ومشاركتهم في حمل التراب والحجارة وغير ذلك مما يوحي بكمال خصاله، وتفرّد خلاله، ورسوخ أخلاقه العظيمة في جميع الأحوال، وكل الأطوار.
عن البراء رضي الله عنه قال: “رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره -وكان رجلاً كثير الشعر-“، وفي رواية: “كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو أغبرّ بطنه وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا … وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعداء قد بغوا علينا … إذا أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته” (16).

وعن جابر رضي الله عنه قال: “إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كديّة شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: (أنا نازل)، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب في الكدية فعاد كثيبًا أهيل أو أهيم” (17)، وفي رواية: (والله لولا أنت ما اهتدينا) (18).
لقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يبقى في حصن منيع وأن يتخذ لنفسه حرسًا، وما أكثر الذين يفدونه بأرواحهم من أصحابه، ولو فعل ذلك لم يعترض عليه أحد، ولرأى الصحابة أن ذلك من حقه وأن من واجبهم أن يقوموا بحمايته، وأن يتولوا حماية المدينة بحفر الخندق، ولكنه صلى الله عليه وسلم قدوة عليا لأمته فهو دائمًا يسابق أصحابه إلى البذل والتضحية، ولا يوفر نفسه من الأعمال الشاقة، إن مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في حفر الخندق مع أنه زعيم المسلمين وإمامهم وبين قوم يفدونه بأرواحهم لمن أقوى الأدلة على صفاته التربوية العالية وخلود عظمته عبر الأجيال؛ فلم يجعل من نفسه زعيمًا دنيويًا يصدر الأوامر والنواهي وهو في معزل من عامة الناس بل شاركهم في السراء والضراء، يشبع إذا شبعوا ويجوع إذا جاعوا، ويعمل في المصالح العامة كما يعملون وما هذا إلا مثل من أمثلة كثيرة لتواضعه وسلوكه التربوي العالي صلى الله عليه وسلم (19).
* ما يستفاد من الحديثين:
1- التواضع: إن من أعظم الصفات الحميدة التواضع، وقد دل هذان الحديثان على هذه الصفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يحفر مع أصحابه الخندق ويواري التراب بطنه، ويربط الحجر على بطنه من الجوع، قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: وفيه دليل على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه؛ إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك الفضل العظيم كان ينقل التراب مع أصحابه، كأنه واحد منهم.
2- الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل: ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بفعل الأسباب وهو إمام المتوكلين، فحفر الخندق وحمل التراب، وأمر أصحابه بذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب ويأمر بفعلها، ويستعين بالله عز وجلّ وبعد الفراغ من الأسباب لا يعتمد عليها بل يعتمد بقبله على الله عز وجلّ.
3- الحث على أخذ الحذر والأهبة لصد أعداء الإسلام، ولهذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه مع أصحابه، وحفروا الخندق، وتأهبوا لقتال عدوهم وصده، وأخذوا الحذر منه، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) النساء: 71.
4- الصبر وتحمل المشاق: دل الحديثان على صبر صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على مشاق والاستعداد لقتال أعداء الإسلام، ولهذا صبروا على الجوع، والتعب في حفر الخندق، ونقل التراب على ظهورهم؛ فينبغي الصبر والمصابرة على المشاق قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران:200.
5- الزهد: دل الحديثان على زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدنيا، وإيثارهم ما عند الله تعالى على ملذاتها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم -كما جاء في رواية أخرى للحديث- (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)؛ فالعيش الباقي والدائم المعتبر والمستمر، والمطلوب هو عيش الآخرة، وأما عيش الدنيا فإنه متاع زائل، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي هاذين الحديثين إشارة إلى تحقير عيش الدنيا لما يعرض له من التكدير وسرعة الفناء.
6- إنشاد الشعر الممدوح والرجز: لا شك أن إنشاد الشعر المحمود، والرجز الممدوح من أساليب الدعوة إلى الله تعالى، ولهذا فعله عليه الصلاة والسلام في حفر الخندق مع أصحابه، وهذا الرجز منسوب إلى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، قال العلامة العيني رحمه الله:
وفيه استعمال الرجز والشعر إذا كانت فيه إقامة النفوس، وإثارة الأنفة والمعرّة.
7- التسلية والتنشيط عند الشدائد والحرب: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه أن إنشاد الشعر تنشيط في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز، وقال أيضًا: الرجز من بحور الشعر على الصحيح، وجرت عادة العرب باستعماله في الحرب؛ ليزيد في النشاط ويبعث الهمم.
8- القدوة الحسنة: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في مباشرته صلى الله عليه وسلم الحفر بنفسه تحريض للمسلمين على العمل ليتأسوا به في ذلك.
9- رفع الصوت في الخطب والمواعظ: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه جواز رفع الصوت في عمل الطاعة لينشّط نفسه وغيره.
10- إعانة الإمام لأصحابه: قال الإمام ابن أبي جمرة رحمه الله: وفيه دليل على أن الإمام ينزل للخدمة مع أصحابه، إذا كانوا في أمور الحرب وإعانتهم فيما هم بسبيله.
11- من أساليب الدعوة: التأكيد بالقسم: لقوله صلى الله عليه وسلم: (والله لولا الله ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا)؛ فينبغي أن يُستخدم هذا الأسلوب عند الحاجة؛ لأنه يثبت المعاني في القلوب ويحملها على التصديق.
12- الاستفادة مما عند الآخرين: فقد ذكر كثير من العلماء أن سبب حفر الخندق مشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق؛ لأن سلمان قال: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا (20).
مشاهد ومواقف وعبر ومعجزات في تلك الغزوة العصيبة:
1- وقت الغزوة وسببها: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكانت في سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين، إذ لا خلاف أن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل وهو سنة أربع ثم أخلفوه لأجل جدب تلك السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاؤوا لحربه، هذا قول أهل السير والمغازي (21).
2- معجزات للرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب:
أ- إبصاره قصور الملوك وإعطاؤه مفاتيح ملكهم: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءنا فأخذ المعول فقال: (بسم الله) فضرب ضربة فكسر ثلثها، وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصار قصورها الحمر الساعة)، ثم ضرب الثانية، فقطع الثلث الآخر، فقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصار قصر المدائن أبيض) ثم ضرب الثالثة، وقال: (بسم الله) فقطع بقية الحجر، فقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصار أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة) (22).
ب- تكثيره للطعام: عن جابر رضي الله عنه قال: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصًا (23) فانكفأت (24) إلى امرأتي، فقلت لها: هل عندك شيء؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، فأخرجت لي جرابًا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة (25) داجن (26) قال: فذبحتها وطحنت، ففزعت إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله! إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أهل الخندق! إن جابرًا قد صنع لكم سورًا (27) فحيهلا بكم)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء)، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك (28) فقلت: قد فعلت الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيه وبارك، ثم قال: (ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي في برمتكم (29) ولا تنزلوها) وهم ألف، فأقسم بالله إلا أكلوا حتى تركوه وانحرفوا (30) وإن برمتنا لتغط (31) كما هي، وإن عجينتنا -أو كما قال الضحاك- لتخبز كما هو (32).
3- رجل المهمات الصعبة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال: اشتد الأمر يوم الخندق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتينا بخبر بني قريظة؟ فانطلق الزبي فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضًا فذكر ثلاث مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حواري والزبير حواري) (33).
4- رسول الله يضحك: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: “لما كان يوم الخندق ورجل يتترس جعل يقول بالترس هكذا، فوضعه فوق أنفه، ثم يقول هكذا يسفله بعد، قال: فأهويت إلى كنانتي، فأخرجت منها سهمًا مدمى، فوضعته في كبد القوس، فلما قال هكذا تسفل الترس رميت، فما نسيت وقع القدح على كذا وكذا من الترس، مال وسقط فقال برجله هكذا، فضحك نبي الله صلى الله عليه وسلم أحسبه قال حتى بدت نواجذه”.
5- نصر الله رسوله بريح الصبا: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور) (34)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتت الصبا الشمال ليلة الأحزاب فقالت: مري حتى ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال: إن الحرّة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي نصر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبا (35).
6- تحول ميزان القوة بعد معركة الأحزاب: عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين جلى الأحزاب عنه: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم) (36).

لوددت أن أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل:
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) التوبة: 11، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فليتأمل العاقل مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجلّه، فإن الله عز وجلّ هو المشتري، والثمن جنات النعيم، والفوز برضاه، والتمتع برؤيته هناك، والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر، وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له … فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكها الذي اشتراهما من المؤمنين فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة! بالله ما هزلت فيستامها المفلسون؛ ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون! لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرضَ ربها لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطالون، وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن، فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ) المائدة: 54.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قام بالجهاد في سبيل الله حق القيام، فجاهد بيده، وبلسانه، وبقلبه، طيلة عمره، وعدد أنفاسه، وها هو صلى الله عليه وسلم نراه في هذا الموقف النبوي يقسم قسمًا عظيمًا أنه لولا خشيته أن يشق على المسلمين بما سنراه في الحديث ما قعد خلف سرية أو غزوة، وهذا والله هو الإيمان الكامل، والثبات الراسخ، والشجاعة المتناهية، وقوة القلب العميقة المتأصلة في نفسه عليه السلام، والجود الوافر الذي ليس وراءه منتهى، وهل هناك أعظم من الجود بالنفس!
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده! ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده! لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشقّ عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده! لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل) (37)، قال ابن القيم رحمه الله: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخليّ حرفة الشّجيّ، فتأخر أكثر المدعين للمحبة، وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فسلموا ما وقع عليه العقد، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين، فلما رأى التجار عظمة المشترى وقدر الثمن، وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه، ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد، عرفوا أن للسلعة قدرًا وشأنًا ليس لغيرها من السلع، فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة، تذهب لذتها وشهوتها، وتبقى تبعتها وحسرتها، فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء؛ فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضًاّ واختيارًا من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد، وسلموا المبيع، قيل لهم: قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا، والآن رددناها عليك أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معه (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران: 69، لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبًا للربح عليكم، بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجلّ الأثمان، ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن، فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق، فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن، ووفق لتكميل العقد، وقبل المبيع على عيبه، وأعاض عليه أجلّ الأثمان، واشترى عبده من نفسه بماله، وجمع له بين الثمن والمثمن، وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد، وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه، لقد حرك الداعي إلى الله، وإلى دار السلام النفوس الأبية، والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيا، فهزه السماع إلى منازل الأبرار، واحدًا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار. (38).
* ما يستفاد من الحديث:
1- شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتظهر من قوله فيما يلي:
أ- حثه المؤمنين على الجهاد في سبيل الله تعالى بما ظهر في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رغب في شيء فمما لا شك فيه أنه يكون أول الممتثلين بما أمر أو رغب فيه، ومن هنا كان لزامًا على من جاهد في سبيل الله أن يكون متخلقًا بخلق الشجاعة التي تحثه على بذل النفس رخيصةً في سبيل الله تعالى.
ب- قسمه عليه الصلاة والسلام وتأكيده على رغبته التامة في الخروج مع كل سرية تغزو في سبيل الله.
ج- قسمه العظيم، وتلهّفه الشديد بقوله: (والذي نفس محمد بيده! لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل) ثم يكرر هذه الجملة ثلاث مرات، وهذه والله أمنية أشجع الشجعان، أن يتمنى أن تزهق روحه، ويسفك دمه في سبيل الله ثم يحيا ثم يقتل وهكذا ثلاث مرات يؤكدها حتى يتم رضا الله تعالى عنه ويمن عليه بالفضل الذي لا يساويه فضل.
2- أوجب الله للمجاهد في سبيله الجنة بفضله وكرمه سبحانه وتعالى، وهذا الضمان والكفالة موافق لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ) التوبة: 111.
3- المجاهد الحق في سبيل الله مؤمن بربه، مصدق لرسله، فهو المضمون له المذكور في الحديث، ومن لبس ثوب الجهاد ولم يتصف بما نص عليه، فهو غير مضمون له النتيجة المذكورة من أمر الجنة وغيرها.
4- المجاهد في سبيل الله قد فاز وظفر على كل حال، فإما أن يفوز بالجنة، وإما أن يفوز بالظفر والغنيمة والرجوع إلى الأهل والأحبة سالمًا وهم معافون من كل أذى لرعاية الله لهم.
5- الشهداء يدخلون الجنة بعد استشهادهم إكرامًا من الله وسرعة في تعجيل الوعد الذي وعدوه وهم في الدنيا، فيغدون في الجنة ويروحون.
6- الظافر من المجاهدين حصّل أجر الجهاد والغنيمة معا، ودليل على أن الشهيد لا يزول عنه الدم بغسل ولا غيره، والحكمة من مجيئه يوم القيامة على هيئته، أن يكون معه شاهد فضيلته وبذله نفسه في طاعة الله.
7- دليل على جواز اليمين وانعقادها بقوله: (والذي نفسي بيده) ونحو هذه الصيغ من الحلف بما دل على الذات ولا خلاف في هذا.
8- الشهداء لهم يوم القيامة وسم خاص بهم وهو الكلم الذي يبعث دمًا باللون ورائحته رائحة المسك.
9- ليس كل فعل من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الوجوب.
10- يجوز للإمام أن يتخلف عن السرية أو الغزوة إذا رأى في ذلك مصلحة مرتبة على تخلفه.
11- ينبغي على الإمام أن يراعي أحوال العامة، ويسير بسير أضعفهم حتى لا يشق ذلك عليهم، ولا أحد يدخل الجنة فيحب أن يخرج منها إلى الدنيا إلا الشهيد ليغزو في سبيل الله، ثم يقتل في سبيل الله، ثم يغزو، ثم يقتل، ثم يغزو ثم يقتل، لما يرى من الكرامة (39).
12- فاللهم إنا نبرأ إليك من كل ظالم معتد أثيم، ونسألك عزًا للإسلام والمسلمين.
13- الجود بالنفس من أعظم مراتب الجود، وهذا أمر قد عرف به الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فهو صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل ثم يحيا ثم يقتل ثم يحيا ثم يقتل، وهذا الذي يجود هذا الجود ليس بغريب عليه أن يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي هذا واد من الإبل وغيره واد من الغنم، .

فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا “حادثة الإفك”:
حادثة الإفك مصاب عظيم، وبلاء جسيم، وفتنة خبيث لئيم، أصابت قلب كل مسلم محب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته قبل مصابهم بهذا البلاء المستعر، والشر المستطير (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا) ومع هذا الحادث العظيم نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر بمظهر الكمال الإنساني تجاه هذه النائبة التي تقصم الظهور، وتهز العقول، والتي سرعان ما ينهار فيها الإنسان ويرتكب من الأعمال ما يندم عليه عند ما تهدأ النفوس، وتنجلي الحقائق، فلقد تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموقف، ولكنه مع ذلك أمسك بزمام نفسه، وسمت أخلاقه حتى احتوت هذه الفتن، نعم، لقد تأثر وهذا شيء طبيعي، ولكنه أيضًا تعامل مع الواقع بحكمة شديدة، نرى فيها كمال خلقه، وعظيم صبره، وقوة بأسه، ورجاحة عقله، وقوة فطنته وذكائه، فصلى الله عليه وعلى آله جميعًا إلى يوم الدين، وهذه الحادثة سردها يطول، ولكن سأحاول أن أجلّي بعض الصور التي صبر فيها رسول الله تجاه هذا الموقف وتلك المصيبة التي ألمت بآل بيته جميعًا، ولكنها ما فتئت أن كانت خيرًا وصارت قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وطهرًا ينشر عبيره في أرجاء الكون كله، ودوحة باسقة يتقلدها المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآل بيته جميعًا، وعلى الجانب الآخر أصبح رأس الفتنة وموقدها يذكر بأسوأ ما يعلم، وتوعده الله بعذاب أليم؛ لأن الحد لا يطهره من هذا الجرم القبيح فلعنة الله على المنافقين.
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات مرة وكانت عائشة رضي الله عنها معه في تلك الغزوة، وأبعدت عنهم في ساعة لتقضي شأنها، فانفرط عقدها، فمكثت تلتمسه ووجدته، ثم جاءت منازل الجيش وليس بها داعٍ ولا مجيب، فجلست تنتظرهم إذا ما فقدوها؛ لأنهم ظنوها في هودجها، وكانت إذ ذاك خفيفة اللحم، فحملوه وظنوها بداخله، فأخذها النوم في مكانها، وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ من وراء الجيش فرأى عائشة رضي الله عنها فعرفها فأناخ راحلته، فركبتها من دون أن يكلمها أو تكلمه، ثم جاء يقود بها بعد ما نزل الجيش في الظهيرة، فلما رأى بعض المنافقين الذين في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال، أشاع ما شاع، ووشى الحديث، وتلقفته الألسن، حتى اغترّ بذلك بعض المؤمنين، وصاروا يتناقلون الكلام، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريا بني (40) في وجعي، أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف (41) الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثم يقول، (كيف تيكم)، ثم ينصرف، فذاك الذي يريا بني ولا أشعر بالشرّ حتى خرجت بعد ما نقهت (42) فخرجت معي أمّ مسطح، فأخبرتها الخبر فحزنت حزنًا شديدًا، وبكت بكاءً مرًّا ورجعت إلى البيت تقول رضي الله عنها: ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تعني سلّم ثم قال: (كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم … فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله … فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر (43) يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)، فقال سعد بن معاذ: أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فردّ عليه سعد بن عبادة ردًا شديدًا، فتساور الحيّان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت، قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع يظنّان أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: (أما بعد، يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه)، قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن-: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني بريئة- لا تصدّقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لتصدّقنّي، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) يوسف: 18، قالت: ثم تحوّلت فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرّؤني الله بها، قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت: فلما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّي عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله عز وجلّ فقد برأك) (44).

* ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية القرعة حتى بين النساء وفي المسافرة بهن والسفر بالنساء حتى في الغزو (45).
2- جواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزالة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئًا عند قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق وأن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم وتحصيل الأجر للموقوع فيه.
3- إن الهودج يقوم مقام البيت في حجاب المرأة.
4- جواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير ولو كان ذلك مما يشق عليه حيث يكون مطيقًا ذلك.
5- وفيه خدمة الأجانب للمرأة من وراء حجاب وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن.
6- توجه المرأة لقضاء حاجتها واحدها وبغير إذن خاص من زوجها بل اعتمادًا على الإذن العام المستند إلى العرف العام.
7- جواز تحلي المرأة في السفر بالقلادة ونحوها، وصيانة المال ولو قلّ للنهي عن إضاعة المال، فإن عقد عائشة رضي الله عنها لم يكن من ذهب ولا جوهر.
8- شؤم الحرص على المال؛ لأنها لو لم تطل في التفتيش لرجعت بسرعة فلما زاد على قدر الحاجة حصل ما جرى.
9- استعمال بعض الجيش ساقة يكون أمينًا ليحمل الضعيف ويحفظ ما يسقط وغير ذلك من المصالح.
10- إغاثة الملهوف، وعون المنقطع، وإنقاذ الضائع، وإكرام ذوي القدر وإيثارهم بالركوب، وتجشم المشقة لأجل ذلك، وحسن الأدب مع الأجانب خصوصًا النساء لا سيما في الخلوة.
11- ملاحظة الزوجة وحسن معاشرتها، والتقصير من ذلك عند إشاعة ما يقتضي النقص وإن لم يتحقق، وفائدة ذلك أن تتفطن لتغيير الحال فتعتذر أو تعترف.
12- السؤال عن المريض، وإشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة، فإذا كان السبب محققًا فيترك أصلاً، وإن كان مظنونًا فيخفف، وإن كان مشكوكًا فيه أو محتملاً فيحسن التقليل منه لا للعمل بما قيل، بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه؛ لأن ذلك من خوارم المروءة.
13- البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل فيه هل وقع منه قبل ذلك ما يشبهه أو يقرب منه واستصحاب حال من اتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفًا بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك.
14- وفيه استشارة المرء أهل بطانته ممن يلوذ به قرابة وغيرها، وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب، والبحث عن حال من اتهم بشيء، وحكاية ذلك للكشف عن أمره ولا يعد ذلك غيبة.
15- وفيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان ولعلي بن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وأم مسطح رضي الله عنهم جميعًا.
16- التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح.
17- جواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه، لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظًا له.
18- الندب إلى قطع الخصومة، وتسكين ثائرة الفتنة، وسد ذريعة ذلك، واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما، وفضل احتمال الأذى.
19- أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يقتل؛ لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم.
20- تدرج من وقع في مصيبة فزالت عنه لئلا يهجم على قلبه الفرح من أول وهلة فيهلكه، يؤخذ ذلك من ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي ببراءة عائشة بالضحك ثم تبشيرها ثم إعلامها ببراءتها مجملة، ثم تلاوته الآيات على وجهها، وقد نص الحكماء على أن من اشتد عليه العطش لا يمكّن من المبالغة في الري في الماء يفضي به ذلك إلى الهلكة بل يجرع قليلاً قليلاً.
21- أن الشدة إذا اشتدت أعقبها الفرج، وفضل من يفوض الأمر لربه، وأن من قوي على ذلك خف عنه الهم والغم، كما وقع في حالتي عائشة قبل استفسارها عن حالها وبعد جوابها بقولها: والله المستعان.
22- التأسي بما وقع للأكابر من الأنبياء وغيرهم.
23- بيان أن الحبيب صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب حتى يعلمه الله تعالى، فكيف إذا بغيره ممن يدّعون علم الغيب والمكاشفة تغريرًا بالمسلمين وتضليلاً لهم لاستغلالهم.
24- بيان براءة أم المؤمنين ولذا من شك في براءتها بعد نزول القرآن بذلك فقد كفر إما أن يراجع الإسلام وإلا فهو كافر من أهل النار.
25- إقامة حد القذف على من قذف محصنًا مؤمنًا أو محصنة مؤمنة بفاحشة، إذ أقيم الحد على مسطح وحسان وحمنة، فطهرهم الله تعالى بذلك، ولم يقم الحد على ابن أبيّ؛ لأنه كافر لا تطهره الحدود.
26- حرمة قذف المحصنات المؤمنات وكذا المحصنين المؤمنين، وأنه من كبائر الذنوب، وموجب للحد، وهو ثمانون جلدة.
وغير ذلك من الفوائد في هذه القصة كثير. (46).

الإسراء والمعراج تسلية ومكافأة ربانية:
قال تعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير) الإسراء: 1، قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: ينزه تعالى نفسه المقدسة ويعظمها؛ لأن له الأفعال العظيمة والمنن الحسيمة التي من جملتها أن أسرى بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام الذي هو أجل المساجد على الإطلاق إلى المسجد الأقصى الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء؛ فأسرى به في ليلة واحدة إلى مسافة بعيدة جدًا، ورجع في ليلته، وأراه الله من آياته ما ازداد به هدى وبصيرة وثباتًا وفرقانًا، وهذا من اعتنائه تعالى به ولطفه؛ حيث يسره لليسرى في جميع أموره، وخوّله نعمًا فاق بها الأولين والآخرين، وظاهر الآية أن الإسراء كان في أول الليل، وأنه من نفس المسجد الحرام، لكن ثبت في الصحيح أنه أُسري به من بيت أم هانئ، فعلى هذا تكون الفضيلة في المسجد الحرام لسائر الحرم، فكله تتضاعف فيه العبادة كتضاعفها في نفس المسجد، وأن الإسراء بروحه وجسده معًا، وإلا لم يكن في ذلك آية كبرى، ومنقبة عظيمة، وقد تكاثرت الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء، وذكر تفاصيل ما رأى، وأنه أُسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به من هناك إلى السموات العلى، ورأى الجنة والنار والأنبياء على مراتبهم، وفرض الله عليه الصلوات خمسين، ثم ما زال يراجع ربه بإشارة موسى الكليم حتى صارت خمسًا بالفعل، وخمسين بالأجر والثواب، وحاز من المفاخر تلك الليلة، هو وأمته ما لا يعلم مقداره إلا الله عز وجلّ.
غير أن كفار قريش قابلوا هذه المعجزة بالتكذيب، والتشنيع، والسخرية والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم مما سبب له الحزن والتألم لتكذيب قريش له، غير أنه صلى الله عليه وسلم صبر الصبر الجميل، ولم يهتز أمام هذه القلوب الحاقدة الحاسدة الماكرة وأعلن أمامهم التفاصيل الدقيقة لهذه الرحلة والمعجزة المباركة الميمونة، بل ووصف لهم بيت المقدس وصف الخبير الذي حيرهم وأذهلهم ومع ذلك كابروا وعاندوا وشهّروا به صلى الله عليه وسلم، والإسراء والمعراج نقطة تحول هامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ عرف صلى الله عليه وسلم وأتباعه من أعدائه الذين ارتدوا أمام تضخيم قريش المشين لهذه المعجزة، وأترك زبالات الجاهلية وعفنها، إلى المعجزة النبوية وعظمتها، نتعلم من إشراقاتها، ونستفيد من دروسها وهباتها، ونقف على جوانب العظمة والنبوة التي صبغت بها الشخصية المحمدية، والتي تدين بها الطوائف السلفية، وتضيق منها معاطن الفرق البدعيّة.
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق -وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه- قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت. قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم، فرحّب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بابنَي الخالة عيسى ابن مريم ويحيا ابن زكريا صلوات الله عليهما، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، إذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحّب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحّب ودعا لي بخير، قال الله عز وجلّ: (وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا) ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال:
قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل عليه السلام، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفّف عن أمتي فحطّ عني خمسًا، فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عني خمسًا. قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة. ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرًا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها كتبت سيئة واحدة قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه) (47)، وعن البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه)، قال ابن القيم: فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله عزّ وجلّ من آياته الكبرى، فاشتدّ تكذبيهم له وأذاهم، واستضرارهم عليه، وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله له حتى عاينه، فطفق يخبرهم عن آياته ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئًا، وأخبرهم عن عيرهم في مسراه ورجوعه، وأخبرهم عن وقت قدومها، وأخبرهم عن البعير الذي يقدمها، وكان الأمر كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا، وأبى الظالمون إلا كفورًا ) ، (48).

* ما يستفاد من الحديث:
1- أن للسماء أبوابًا حقيقية وحفظة موكلين بها.
2- إثبات الاستئذان، وأنه ينبغي لمن يستأذن أن يقول: أنا فلان، ولا يقتصر على أنا؛ لأنه ينافي مطلوب الاستفهام، وأن المار يسلّم على القائد، وإن كان المار أفضل من القاعد.
3- استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء.
4- جواز مدح الإنسان المأمون على الافتتان في وجهه.
5- وفيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وغيره مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
6- وفيه جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل.
7- وفيه فضل السير بالليل على السير بالنهار لما وقع من الإسراء بالليل، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكان أكثر سفره صلى الله عليه وسلم بالليل، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل).
8- وفيه أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، ويستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عالج الناس قبله وجرّبهم.
9- ويستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأن من سلف من الأمم كانوا أقوى أبدانًا من هذه الأمة، وقد قال موسى إنه عالجهم على أقل من ذلك فما وافقوه.
10- ويستفاد منه أن مقام الخلة مقام الرضا والتسليم، ومقام التكلم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثم استبد موسى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم عليه السلام، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى لمقام الأبوة، ورفعة المنزلة والاتباع في الملة، وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث من سبقه إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه.
11- وفيه أن الجنة والنار قد خلقتا، لقوله في بعض طرقه التي بينها: (عرضت عليّ الجنة والنار).
12- وفيها استحباب الإكثار من سؤال الله، قال: وتكثير الشفاعة عنده لما وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مشورة موسى في سؤال التخفيف.
13- وفيه فضيلة الاستحياء وبذل النصيحة لمن يحتاج إليها وإن لم يستشر الناصح في ذلك. “من فتح الباري”.
14- الإسلام دين الفطرة، قال محمد سعيد رمضان: وفي اختيار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر حينما قدمهما له جبريل عليه السلام دلالة رمزية على أن الإسلام هو دين الفطرة، أي الدين الذي ينسجم في عقيدته وأحكامه كلها مع ما تقتضيه نوازع الفطرة الإنسانية الأصيلة، فليس في الإسلام شيء مما يتعارض مع الطبيعة الأصيلة في الإنسان، ولو أن الفطرة كانت جسمًا ذا طول وأبعاد لكان الدين الإسلامي الثوب المفصّل على قدره، وهذا من أهم أسرار سعة انتشاره وسرعة تقبل الناس له؛ إذ الإنسان مهما ترقى في مدارج الحضارة، وغمرته السعادة المادية، فإنه يظل نزاعًا إلى استجابة نوازع الفطرة لديه، ميّالاً إلى الانعتاق عن ربقة التكلفات والتعقيدات البعيدة عن طبيعته، والإسلام هو النظام الوحيد الذي يستجيب لأعمق نوازع الفطرة البشرية (49).
15- المستقبل للإسلام، قال صفي الرحمن المباركفوري: يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، فربما يظن القارئ أن الآيتين ليس بينهما ارتباط، والأمر ليس كذلك فإن الله تعالى يشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس؛ لأن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبقَ معها مجال لبقائهم على هذا المنصب، وأن الله سينقل هذا المنصب فعلاً إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويجمع له مركزَي الدعوة الإبراهيمية كليهما؛ فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، ولا يزال رسولها يتمتاع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم (50).
16- مكافأة ربانية، قال الجزائري حفظه الله: “الإسراء والمعراج” كان مكافأة ربانية على ما لاقاه الحبيب صلى الله عليه وسلم من أتراح وآلام وأحزان، إذ كان بعد حصار دام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، وما لاقاه في أثنائه من جوع وحرمان، إنه كان بعد فقد الناصر الحميم، وفقد خديجة أم المؤمنين، إنه كان بعد خيبة الأمل في ثقيف، وما ناله من سفهائها وصبيانها وعبيدها، بعد هذه الآلام كافأ الحبيب حبيبه فرفعه إليه، وقربه وأدناه، وخلع عليه من حلل الرضا ما أنساه كل ما كان قد لاقاه من حزن وألم ونصب وتعب، وما قد يلاقيه في سبيل إبلاغ رسالته ونشر دعوته؛ فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ذكر الله الذاكرون، وما غفل عن ذكره الغافلون (51).
17- الإسراء كان بالروح والجسد، قال القاضي عياض: وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة، وهذا هو الحق … وقال أيضًا: والصحيح إن شاء الله أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة (52) إذ لو كان منامًا لقال: بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله تعالى: (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ولو كان منامًا لما كان فيه آية ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولا كذّبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا في المنامات لا ينكر بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته (53).

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك:
قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 183، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أي: فرض وقوله: (كَما كُتِبَ) أي كما فرض (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وإنما ذكر الله تعالى أنه فرض على من قبلنا ولم يذكر مثل ذلك في الصلاة؛ لأن الصيام فيه مشقة، وتعب، وترك المألوف، ولا يخفى أنه في أيام الحر وطول النهار يكون شديدًا على النفوس، فذكر الله أنه فرضه على من قبلنا تسلية لنا؛ لأن الإنسان إذا علم أن هذا الشيء له ولغيره هان عليه، وذكره أيضًا من أجل أن يبين أنه جل وعلا أكمل لنا الفضائل، كما أكمل لمن سبقنا ما شاء من الفضائل. ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعيته الصيام فقال: (لعلّكم تتّقون) فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه؛ فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم بترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه. “من تفسير السعدي”؛ لذلك كان فضل الصوم عظيمًا، لدرجة أن هذه الرائحة الكريهة التي تنبعث من فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ولذلك أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجلّ: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) (54)، الصائم ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل ربه، فلما طالت المدة بخلو معدته من الطعام إيثارًا لطاعة الرحمن كانت تلك الرائحة التي فاحت من المعدة ووصلت إلى الفم حتى غيّرته وعلته الرائحة الكريهة والتي يضجر الناس منها بل ويتأففون، هذه الرائحة لماذا حصلت(! وما كان الباعث وراءها(! إنها العبودية والتقوى التي جعلت الصائم يؤثر ترك الطعام والشراب طاعة لله! فهل يعقل أن تكون النتيجة أن هذه الرائحة الكريهة كريهة كذلك عند الله(! اللهم لا! فالجزاء من جنس العمل وإن لم يعلم المسلم ذلك.

* ما يستفاد من الحديث:
1- الصيام يختصه الله عز وجلّ من بين سائر الأعمال؛ لأنه -أي الصيام- أعظم العبادات إطلاقًا، فإنه سر بين الإنسان وربه، لأن الإنسان لا يعلم إذا كان صائمًا أو مفطرًا، هو مع الناس ولا يعلم به نيته باطنة، فلذلك كان أعظم إخلاصًا، فاختصه الله منه بين سائر الأعمال.
2- أن عمل ابن آدم يزاد من حسنة إلى عشرة أمثالها، إلا الصوم، فإنه يعطى أجره بغير حساب يعني: أنه يضاعف أضعافًا كثيرة، قال أهل العلم: ولأن الصوم اشتمل على أنواع الصبر الثلاثة، ففيه صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله، أما الصبر على طاعة الله: فلأن الإنسان يحمل نفسه على الصيام مع كراهته له أحيانًا، يكرهه لمشقته، لا لأن الله فرضه، لو كره الإنسان الصوم، لأن الله فرضه لحبط عمله، لكنه كرهه لمشقته، ولكنه مع ذلك يحمل نفسه عليه، فيصبر عن الطعام والشراب والنكاح لله عز وجلّ، والنوع الثاني من أنواع الصبر: الصبر عن معصية الله، وهذا حاصل للصائم فإنه يصبر نفسه عن معصية الله عز وجلّ، فيتجنب اللغو والرفث والزور وغير ذلك من محارم الله، والثالث: الصبر على أقدار الله، وذلك أن الإنسان يصيبه في أيام الصوم، -ولا سيما في الأيام الحارة والطويلة- من الكسل والملل والعطش ما يتألم ويتأذى به، ولكنه صابر لأن ذلك في مرضاة الله؛ فلما اشتمل على أنواع الصبر الثلاث، كان أجره بغير حساب، قال الله تعالى: (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) الزمر: 10.
3- أن للصائم فرحتَين، الفرحة الأولى عند فطره، إذا أفطر فرح بفطره، فرح بفطره من وجهين: فهو أدى فريضة من فرائض الله، وأنعم الله بها عليه، وكم من إنسان في المقابر يتمنى أن يصوم يومًا واحدًا فلا يكون له! وهذا قد منّ الله عليه بالصوم فصام، فهذه نعمة، فكم من إنسان شرع في الصوم ولم يتمه! فإذا أفطر فرح؛ لأنه أدى فريضة من فرائض الله، ويفرح أيضًا فرحًا آخر، وهو أن الله أحل له ما يوافق طبيعته من المآكل والمشارب والمناكح، بعد أن كان ممنوعًا منها، فهاتان فرحتان في الفطر:
الأولى- أن الله منّ عليه بإتمام هذه الفريضة.
الثانية- أن الله منّ عليه بما أحل له من محبوباته من طعام وشراب ونكاح.
4- الإشارة إلى الحكمة من فرض الصوم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب) يعني: لا يقول قولاً يأثم به ولا يصخب فيتكلم بكلام صخب، بل يكون وقورًا مطمئنًا متأنيًا، فإن سابه أحد أو شاتمه فلا يرفع صوته عليه، بل يقول: إني صائم، يقول ذلك، لئلا يتعالى عليه الذي سابّه، كأنه يقول: أنا لست عاجزًا عن أن أقابلك بما سببتني ولكني صائم، يمنعني صومي من الرد عليك، وعلى هذا فيقوله جهرًا، وأيضا إذا قال: (إني صائم) يردع نفسه عن مقابلة هذا الذي سابّه كأنه يقول لنفسه: “إني صائم، فلا تردّي على هذا الذي سب” وهذا أيضًا معنى جليل عظيم (55).
* بحث ماتع في خلوف فم الصائم:
وقع بين أهل العلم خلاف وتنازع في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) ولذا أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)؛ فوقع الخلاف هل هو في الدنيا أو في الآخرة؟ وقد فصّل المسألة تفصيلاً عجيبًا العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه المستطاب: “الوابل الصيب” وانفصل إلى كلمة سواء بين الفريقَين فقال رحمه الله: وفصل النزاع في المسألة أن يقال: حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة، فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر، فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك، كما يظهر فيه رائحة دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك، وكما تظهر فيه السرائر، وتبدو على الوجوه، وتصير علانية، ويظهر فيه قبح رائحة الكفار، وسود وجوههم، وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يمسون، فلأنه وقت ظهور أثر العبادة، ويكون حينئذ طيبها على ريح المسك عند الله -تعالى- وعند ملائكته، وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد، فرب مكروه عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس، فإن الناس يكرهونه، لمنافرته طباعهم، والله تعالى يستطيبه ويحبه، لموافقته أمره ورضاه ومحبته فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا، فإذا كان يوم القيامة، ظهر هذا الطيب للعباد، وصار علانية، وهكذا سائر الأعمال من الخير والشر، وإنما يكمل ظهورها علانية في الآخرة وقد يقوى العمل ويتزايد، حتى يستلزم ظهور بعض أثره على العبد في الدنيا في الخير والشر، كما هو مشاهد بالبصر والبصيرة، قال ابن عباس: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق، وقال عثمان بن عفان: ما عمل رجل عملاً إلا ألبسه الله تعالى رداءه، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وهذا أمر معلوم، يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة، وإن لم يمس طيبًا، فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه، والفاجر بالعكس، والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشم لا هذا ولا هذا، بل زكامه يحمله على الإنكار، فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

إنها لتعدل ثلث القرآن:
قال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، قال الجزائري حفظه الله: قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) الآيات الأربع المباركات نزلت جوابًا لمن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين أنسب لنا ربك أو صفه لنا فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل أي لمن سألوك ذلك هو الله أحد، الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أي: ربي هو الإله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة إلا له، أحد في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له نظير، ولا مثيل في ذلك، إذ هو خالق الكل ومالك الجميع فلن تكون المحدثات المخلوقات كخالقها ومحدثها الله، أي المعبود الذي لا معبود بحق إلا هو، الصمد أي: السيد المقصود في قضاء الحوائج الذي استغنى عن كل خلقه، وافتقر الكل إليه لم يلد أي: لم يكن له ولد لانتفاء من يجانسه، إذ الولد يجانس والده، والمجانسة منفية عنه تعالى، إذ ليس كمثله شيء ولم يولد لانتفاء الحدوث عنه تعالى، ولم يكن له كفوًا أحد أي: ولم يكن أحد كفوًا له ولا مثيلاً ولا نظيرًا ولا شبيهًا إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فلذا هو يعرف بالأحدية والصمدية فالأحدية هو أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن له كفو ولا شبيه ولا نظير، والصمدية هي أنه المستغني عن كل ما سواه والمفتقر إليه في وجوده وبقائه كل ما عداه كما يعرف بأسمائه وصفاته وآياته.
هذه السورة العظيمة أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن كما في هذا الموقف، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قل هو الله أحد: (والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن)، وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة() فشقّ ذلك عليهم، وقالوا: أينا يطيق يا رسول الله؟ فقال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، ثلث القرآن)، وعنه: أن رجلا سمع رجلاً يقرأ: قل هو الله أحد يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن) (56)، القرآن الكريم كما هو معلوم مائة وأربع عشرة سورة وقد تضمنت الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن نصف هذا العدد أي سبعًا وخمسين سورة من سورة المجادلة إلى سورة الناس وهذه السور القصار نسبيًا معظمها من السور المكية، فقرابة أربعة أخماسها نزلت في أول عهد النبوة، ومعنى هذا أن هذه السور على قصرها تضمنت أساس العقيدة الإسلامية؛ ولهذا فإن من حفظ العشر الأخير من القرآن فقد أوتي خيرًا كثيرًا، لأن هذا العشر المبارك يحتوي كما أسلفنا على سبع وخمسين سورة من كتاب الله لكل واحدة منها فضلها وبركتها وإعجازها وبلاغتها، وإن سورة الإخلاص مثلاً خمس عشرة كلمة، وهي على قصرها تعدل ثلث القرآن وإذًا فما يكون للمسلم أن يتقالّ السور القصيرة؛ لأنها ذات شأن خطير وحسبك أنها أرست أساس الإسلام، فلقد مكث الوحي أكثر من خمس سنوات وهو لا ينزل إلا بسورة قصيرة، وفي هذا حكمة بالغة من الله -جل جلاله- إذ لو بدأ بإنزال السور الطوال لشق ذلك على الناس وهم إذ ذاك في العقيدة لطلاب الصف الأول الابتدائي (57).

* ما يستفاد من الحديث:
1- قوله: (والذي نفسي بيده) كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحلف بهذه الصيغة، وقد روى الطبراني وابن ماجه عن رفاعة بن عرابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حلف قال والذي نفسي بيده)؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) أي روحي، وحياتي وموتي، يتصرف فيّ كيف يشاء.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنها لتعدل ثلث القرآن) القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منه الأحكام وبيان الحلال من الحرام، وثلث منه الوعد والوعيد والجزاء، وما وقع بمن كذب الله ورسله، وما سيقع بهم في الآخرة، وكذا من أطاعه، وثلث منه في أسماء الله تعالى وصفاته، وهذه السورة خالصة في الأسماء والصفات قاله أبو العباس ابن سريج، وغيره من السلف.
3- وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على تفاضل كلام الله تعالى وصفاته، وهو المأثور عن السلف، وعليه أئمة الفقهاء وغيرهم، ونصوص الكتاب والسنة تؤيد ذلك، قال الله تعالى: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) البقرة: 106، فأخبر تعالى أنه يأتي بخير منها أو مثلها، فدل على أن الآيات تتماثل مرة وتتفاضل أخرى، وأما الأحاديث فكثيرة، من جملتها هذا الحديث، ومن تأمل كلام السلف ومن سار على نهجهم علم أن هذا من الأمور المستقرّة في نفوسهم (58).
4- وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنها لتعدل ثلث القرآن) يعني: أجرها كأجر ثلث القرآن لكنها لا تجزئ عن القرآن، ولهذا لو قرأها الإنسان مثلاً ثلاث مرات بدل قراءة الفاتحة في الصلاة لا تجزئ؛ لأن هناك فرقًا بين المعادلة في الأجر والمعادلة في الإجزاء، قد يكون الشيء معاد لغيره في الأجر ولكنه لا يعادله في إجزائه، أرأيتم مثلاً إذا قال الإنسان: (لا إله إلا الله واحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، يعني يعادل عتق أربعة رقاب، لكن لو كان عليه عتق رقبة، وقال ذلك ما نفعه ذلك؛ فهناك فرق بين المعادلة في الثواب والمعادلة في الإجزاء، فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب ولكنها لا تعدل في الإجزاء، ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة لم تجزئه عن الفاتحة، والله الموفق (59).
5- هداية الكثيرين من علماء الأديان، هذه السورة المكونة من أربع آيات قصار كانت سببًا في هداية الكثيرين من علماء الأديان، كثيرون أولئك الذين كانوا ينشدون صفاء التوحيد لم يجدوه في عقيدة النصارى حيث يختلط عندهم الأب والابن وروح القدس، ولا وجدوه عند اليهود حيث العزير ابن الله، وحيث هم جميعًا أبناء الله، فلما قرؤوا: (قل هو الله أحد) إذا هم بإزاء توحيد خالص لا يشوبه شرك؛ فالإله الذي يدعو محمدًا إلى توحيده هو الواحد المتفرد بصفات العظمة والكبرياء والجلال، وكل من سواه عبد الله مخلوق بيديه (60).
6- جواز استخدام اللفظ في غير ما يتبادر للفهم؛ لأن المتبادر من إطلاق ثلث القرآن أن المراد ثلث حجمه المكتوب، وقد ظهر للصحابة رضي الله عنهم أن ذلك غير مراد (61)،

لو لم تذنبوا:
قال تعالى: (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر: 53، قال العلامة السعدي رحمه الله: (لا تقنطوا من رحمة الله) أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا أنه يغفر الذنوب جميعًا من الشرك والقتل والزنا والربا والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار، (إنه هو الغفور الرحيم) أي: وصفة المغفرة والرحمة، وصفان لازمان ذاتيان، لا تنفك ذاته عنهما، ولم تزل آثارهما سارية في الوجود، مالئة للموجود، تسبح يداه من الخيرات آناء الليل والنهار، ويوالي النعم على العباد والفواضل في السر والجهار، والعطاء أحب إليه من المنح، والرحمة سبقت الغضب وغلبته، ولكن لمغفرته ورحمته ونيلهما أسباب إن لم يأتِ بها العبد، فقد أغلق على نفسه باب الرحمة والمغفرة، أعظمها وأجلها، بل لا سبب لها غيره، الإنابة إلى الله تعالى بالتوبة النصوح، والدعاء والتضرع والتأله والتعبد، فهلمّ إلى هذا السبب الأجلّ، والطريق الأعظم.
لأن الله تعالى يحب المغفرة، والرحمة، ولا يريد أن يعذب عباده، فهو لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، وتأمل الحديث الاتي حتى تتضح لك عظمة رحمته ومغفرته تعالى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم) (62)، القرآن مليء بالآيات التي تحث على التعرض لرحمة الله تعالى، فعسى أن يرحم الله من يأخذ بأسباب النجاة، والقرآن كذلك مليء بالآيات التي تصف رحمة الله الواسعة بعباده ومنها قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) الحجر: 49-50، قال السعدي رحمه الله: (نبّئ عبادي) أي أخبرهم خبرًا جازمًا مؤيدًا بالأدلة أنّي أنا الغفور الرّحيم فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته ومغفرته، سعوا في الأسباب الموصلة إلى رحمته، وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها؛ لينالوا مغفرته، ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال فنبئهم (وأنّ عذابي هو العذاب الأليم) أي: لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله، الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ كنهه، نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه (… لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الفجر: 25، حذروا، وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب؛ فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائمًا بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها.

* ما يستفاد من الحديث:
الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم على أمر عظيم:
1- الذنوب والمعاصي شأنها خطير؛ فهي التي تكردس العبد في نار جهنم، وإذا تمادى العبد في المعصية ربما ختم له بما كان يألفه من المعاصي، ولكن مع ذلك على العبد المسلم ألا ييأس من رحمة الله، ويعزف عن التوبة والاستغفار بحجة أن الذنوب صارت كثيرة وهي كفيلة بأن تطرده من رحمة الله تعالى، وهنا يأتي قسمه صلى الله عليه وسلم على نسف هذه الأوهام، فيؤكد بحلفه أن المرء مهما قوي إيمانه فلا بد له من التقصير في بعض الجوانب، بل وارتكاب بعض المعاصي، ولو لم تكن هذه الحقيقة كائنة لذهب الله بنا، ولجاء بقوم يذنبون، حتى يستغفروا ويبكوا على ما قدمت أيديهم، وما فرطوا بجنب الله، فيتوبون، ويستغفرون ربهم بكرة وعشيًا؛ فعلى المرء ألا ييأس ولا يحزن فيقنط من رحمة الله.
2- كل ابن آدم خطّاء: نعم كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون، فعلى العبد أن يكثر من التوبة، ويجددها صباحًا ومساء، ويعتبر بحال من مضى من هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والمعاصي فلما تابوا تاب الله عليه، وإن الله تعالى يقبل التوبة من جميع الذنوب والمعاصي بلا استثناء؛ فلا تستعظم ذنبًا بجوار رحمة الله، واعلم عبد الله، أن الله يحب التوابين، ويحب المستغفرين، ويحب المتطهرين، فأكثر من التوبة والاستغفار تطهر من الذنوب والمعاصي بإذن العزيز الرحيم الغفار.
3- ليس في الحديث تحريض على فعل المعصية أو التهوين والتقليل من شأنها ولكن فيه تبشير بالمغفرة وإزالة لشدة الخوف واليأس من النفوس فلقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفر إلى الجبال، ويعتزل الحياة ونعيمها من شدة خوفه من عقاب الله وأليم عذابه، فكان هذا الحديث وأمثاله طمأنينة ورجاء لعفو الله ورحمته ومغفرته.
4- طائفة من الأحاديث في رحمة الله وعفوه ومغفرته: (63) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوامّ فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخّر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي، تبتغي، إذا وجدت صبيًا في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار) قلنا: لا، والله! وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد)، وحديث الذي أوصى أولاده إذا مات أن يحرقوه، وأيضًا حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، وأيضًا الحديث الذي يخبر بفرح الله بتوبة عبده وغير ذلك مشهور على الألسن يتداوله الناس فرحمة الله واسعة.

الذي لا يأمن جاره بوائقه:
قال تعالى: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُورًا) النساء: 36، قال السعدي رحمه الله: (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي: الجار القريب الذي له حقان، حق الجوار، وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف، وكذلك (الجار الجنب) أي: الذي ليس له قرابة، وكلما كان الجار أقرب بابًا، كان آكد حقًا؛ فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة، والدعوة، واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيته بقول أو فعل، (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) قيل: الرفيق بالسفر، وقيل: الزوجة، وقيل: الصاحب مطلقًا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة؛ فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له، والوفاء معه في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.
وليس هناك أقوى من صحبة الجار، وكلما قرب الجدار زاد الحق وثقلت المسؤولية؛ فإن كان ذا قرابة كان الحق آكد، والواجب أعظم.
عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه) (64)، وفي حديث آخر: (والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه) (65)، يهتم الإسلام بحماية الجار من أذى جاره وفي الحديث السابق يبين عليه الصلاة والسلام خطورة من لا يأمن جاره بوائقه؛ لأن الأصل في الجار أن يأمن جاره، ولا يتصور في يوم من الأيام أن يخونه في شيء؛ لذا شدد عليه الصلاة والسلام التحذير من خيانة الجار في غير ما حديث، والمتأمل لحياة العرب في الجاهلية يجد الحرص على حفظ حقوق الجار والبعد عن خيانته، وكانوا يفتخرون بذلك دائمًا، قال عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي … حتى يواري جارتي مأواها
قال الشيخ أبو جمرة: وهو ما كانت الجاهلية ترعاه وتحافظ عليه وتفتخر بحفظه، وتعيب تارك ذلك وتذمه.
فكيف وقد جاء الإسلام وهذّب أخلاقهم أكثر مما كانوا عليه من مروءة وحفظ للجار وعدم خيانته، وخيانة الجار من أخطر الأمور في المجتمع، فإذا كان الرجل يتخوف من جاره أو لا يأمن جاره فإنه لا يقر له قرار، ويعيش في قلق في كل لحظة بسبب هذا الهاجس المحزن، ولا يحس بهذا إلا من ذاق مرارة سوء الجار وابتلي بجار لا يأمن بوائقه نسأل الله السلامة والعافية (66).

* ما يستفاد من الحديث:
1- بيان خطر خيانة الجار في المجتمع: في قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن …إلخ) ما يدل على خطر خيانة الجار وعظم عقوبته عند الله، وأن من أعظم الذنوب أن يخون الجار جاره بهتك عرضه، وأي بائقة أعظم من هذه، أو يؤذيه بأي إيذاء، روي بإسناد صحيح أن بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله: فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها قال: (هي في النار) قالوا: يا رسول الله: فلانة تصلي المكتوبات، وتصدق بالأتوار من الإقط ولا تؤذي جيرانها قال: (هي في الجنة) (67)، وقد سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله عن أي الذي أعظم فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) قلت: ثم أي؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك) قال: ثم أي؟ قال: (أن تزاني حليلة جارك) (68).
2- الفصاحة والبلاغة أسلوب من أساليب البيان: في الحديث ما يبين فصاحته عليه السلام، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في المتن جناس بليغ من جناس التحريف وهو قوله: (لا يؤمن) و(لا يأمن) فالأول من الإيمان والثاني من الأمان.
3- حرص الإسلام على تهذيب أخلاق المدعوين: وفي الحديث ما يدل على اهتمام الإسلام بتحلي المجاورين بالأخلاق الفاضلة فيما بينهم، ومن أعظم الأخلاق بين الجيران أن يتحلى الجار بالأمانة مع جاره؛ إذ الأمانة صفة عظيمة من صفات المؤمنين حذر الله من خيانتها فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال: 27.
4- اهتمام الإسلام باستتباب الأمن في المجتمع المسلم: إن التمسك بدين الله وتحكيم شرع الله سبب لاستتباب الأمن في المجتمع المسلم، ومتى كان المتجاورون متمسكين بدين الله فإن الأمن يسود في المجتمع المسلم، وإذا ضعف الإيمان اختل الأمن في المجتمع المسلم، وكثر الاعتداء على العرض والمال والنفس وفي الحديث تربية للمجتمع المسلم على حفظ الأمن والحذر من أسباب زعزعته واختلاله.
5- حث المسلمين على الفقه في الدين: في قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن …إلخ) وسؤال الصحابة عن المقصود ما يدل على حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلم أمور دينهم، وسماع الإجابة منه صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم، حيث أجابهم بأن المقصود هو الرجل الذي لا يأمن جاره بوائقه، وهكذا صفة المسلم الحريص على الفائدة وآداب طالب العلم الحريص على الفقه في الدين، قال النووي رحمه الله: ومن آداب المتعلم “ألا يسوف في اشتغاله، ولا يؤخر تحصيل فائدة وإن قلت له إذا تمكن منها، وإن أمن حصولها بعد ساعة؛ لأن للتأخير آفات”.
6- نفي الإيمان الكامل: قال ابن بطال رحمه الله: وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول والفعل، ومراده الإيمان الكامل ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان (69).
* رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار خيرًا (70):
هذه طائفة نبوية من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي فيها بالجار خيرًا عسى أن تكون زادًا لنا فيما بيننا:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث خصال من سعادة المرء المسلم في الدنيا: الجار الصالح، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)، (إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم)، (أوصيكم بالجار)، (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، (لقد أوصاني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه يورّثه)، (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم)، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)، (والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه)، (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)، (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جدار)، (يا نساء المسلمات! لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة) (71).

فوالله لأنا أعلمهم بالله:
قال تعالى: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الحشر: 7، قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه.
ويدخل في ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يظنه البعض دون قدرتهم، فهم يطيقون أكثر من ذلك فيجب علينا الامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم، فالثواب على الأعمال من عند الله، ونحن مأمورون بامتثال أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمداومة عليها وإن استقلها البعض، ومع تقدم العمر يعلم الإنسان قيمة ما يطاق من الأعمال.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون. قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه ثم يقول: (إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) (72) وفي رواية أخرى: (فوالله لأنا أعلمهم بالله)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: والمعنى أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بما يسهل عليهم دون ما يشق خشية أن يعجزوا عن الدوام عليه، وعمل ما هو بنظير ما يأمرهم به من التخفيف، طلبوا منه التكليف بما يشق لاعتقادهم احتياجهم إلى المبالغة في العمل لرفع الدرجات دونه، فيقولون لسنا كهيئتك فيغضب من جهة أن حصول الدرجات لا يوجب التقصير في العمل بل يوجب الازدياد شكرًا للمنعم الوهاب، كما قال في الحديث الآخر: (أفلا أكون عبدًا شكورًا) (73) وإنما أمرهم بما يسهل عليهم ليداوموا عليه كما قال في الحديث الآخر: (أحب العمل إلى الله أدومه) (74)، وهذه قضية موجودة الآن بالفعل، فكم من مسلم يتحمس لطاعة من الطاعات فيبدأ بما يشق عليه وبنشاط منقطع النظير ثم لا يلبث أن يفتر وينقطع بعد ذلك، ويصدق في حقه الحديث القائل «إن المنبّت -المجد في السير- (لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى).

* ما يستفاد من الحديث:
1) إن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية من رفع الدرجات ومحو الخطيات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم استدلالهم ولا تعليلهم من هذه الجهة.
2) إن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك أدعى له إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة واستزادة لها بالشكر عليها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدًى وَآتاهُمْ تَقْواهُم) محمد: 17،  وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت: 69؛ فالحسنة ثوابها الحسنة بعدها نسأل الله تعالى الهداية التامة.
3) الوقوف عند ما حد الشارع من عزيمة ورخصة، واعتقاد أن الأخذ بالأرفق الموافق للشرع أولى من الأشق المخالف له، والله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولا يعني هذا أن الإنسان ينبغي عليه أن يتتبع رخص المذاهب كلها، والموفق من وفقه الله.
4) الأولى في العبادة القصد والملازمة، لا المبالغة المفضية إلى الترك كما جاء في الحديث «المنبتّ -أي المجد في السير- (لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: (فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، وإنّ لزورك عليك حقًا، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله، فشدّدت فشدّد عليّ) قلت: يا رسول الله إني أجد قوة، قال: (فصم صيام نبيّ الله داوود عليه السلام ولا تزد عليه)، قلت: وما كان صيام نبيّ الله داوود عليه السلام؟ قال: (نصف الدهر)، فكان عبد الله يقول بعد ما كبر: يا ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم (75).
5) التنبيه على شدة رغبة الصحابة في العبادة وطلبهم الازدياد من الخير، وترى العجب العجاب عند ما تقرأ سيرهم وترى قدر اجتهادهم في فعل جميع أنواع الطاعات.
6) مشروعية الغضب عند مخالفة الأمر الشرعي، والإنكار على الحاذق المتأهل لفهم المعنى إذا قصر في الفهم، تحريضًا له على التيقظ.
7) جواز تحدث المرء بما فيه من فضل بحسب الحاجة لذلك عند الأمن من المباهاة والتعاظم، وكل امرئ أعلم بحقيقة نفسه.
8) بيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم رتبة الكمال الإنساني لأنه منحصر في الحكمتين العلمية والعملية، وقد أشار إلى الأولى بقوله (أعلمكم) وإلى الثانية بقوله: (أتقاكم).
9) رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته، فقد كان يخفف عليهم ويأمرهم بما يطيقون من الأعمال، والأمثلة على ذلك كثيرة والحمد لله وهي مشهورة من قوله وفعله؛ فمن قوله هذا الحديث السابق”، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون..”، وأيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق، ومن فعله أنه صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ونظائر هذا في السنة كثير.
10) منزلة النبي العظيمة عند الله تبارك وتعالى فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه:
قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران: 135، قال الشيخ أحمد فرح عقيلان رحمه الله: ومن صفات المتقين: أنهم قد يقعون في الذنوب، أو يظلمون أنفسهم ببعض المعاصي لكن أنفسهم اللوامة وضمائرهم الحية تردهم حالاً إلى التوبة النصوح، فيذكرون الله، ويستغفرون ربهم، ويندمون على الذنب ويقلعون عنه، ويتبعون السيئة الحسنة فتمحوها، فتغسل التوبة الحوبة، وتجبّ التوبة ما قبلها، ويبدل الله سيئاتهم حسنات؛ لأنهم لجؤوا إلى رحاب الله الكريم، واثقين أنه جل جلاله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الشورى: 26، وما أجمل الاستفهام البليغ في قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) إنه استفهام يفيد النفي، فما للذنوب من يغفرها، ولو كانت كالجبال إلا الله! ومن كرم الله تعالى، أنه لا يكتفي بمغفرة ذنب التائب المستغفر المخلص في توبته، بل إنه يبدل سيئاته حسنات، ويفرح بتوبة عبده فرحة من أضل راحلته في صحراء وعليها زاده، ثم لما أعياه البحث إذا هي واقفة عند رأسه وعليها كامل زاده، وبعد أن وعد الله هؤلاء التائبين الجنة، ختم الآيات ختامًا في غاية البلاغة بقوله: (ونعم أجر العاملين) ليظل التائبون مواصلين للعمل الصالح بعد توبتهم، مستمرين في سلوك سبيل الهدى، إذ لا يكفي من التائب أن يتوب، ثم يعيش على الأماني بل لا بد من المضي قدمًا في طاعة ربه، وشكره على ما أكرمه به من قبول توبته يقول الله جل وعلا:
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى) طه: 82 (76).
وإذا علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب ويستغفر عشرات المرات كل يوم وليلة كان ذلك دافعًا قويًا، وسببًا عظيمًا يدعونا إلى التوبة والاستغفار، والرجوع إلى الله الواحد القهار، كيف لا وهذا هو حال رسولنا وحال نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (77)، عن الأغرّ المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة) (78)، إن المسلم في حياته بأمس الحاجة إلى الاستغفار من الذنوب التي يرتكبها في أعماله وتصرفاته، وما من مسلم إلا وهو معرض لارتكاب الذنوب والمعاصي صغيرة كانت أم كبيرة، ومن فضل الله على عباده أن جعل لهم طريقًا للرجوع عن الذنب، ويسر لهم سبل التوبة والاستغفار من الذنوب جميعًا، وليست التوبة والاستغفار قاصران على بعض الذنوب دون بعض، بل إن الله تعالى يقبل التوبة من جميع المعاصي، ويغفر كل الذنوب بشرط صحة التوبة والاستغفار، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على يسر هذه الشريعة الغرّاء، وعظم رحمة ومغفرة الله تعالى، أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرّنا وما أسررنا وما أعلنّا وما هو أعلم به منا، اللهم آمين.
* ما يستفاد من الحديث:
1- المداومة على الاستغفار: لقد أمر الله نبيه بالاستغفار فقال: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا) النساء: 106، وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا) النصر: 3، وأمر الله جل وعلا عباده المؤمنين بذلك فقال عز من قائل: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المزمل: 20، وبيّن عليه الصلاة والسلام محبة الله للمستغفرين فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) (79)، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر من هديه أن يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، فكيف بغيره من المؤمنين المقصرين.
2- دفع إشكال في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بعدة أجوبة منها: قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير. وهذا ما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أحب أن أكون عبدًا شكورًا)، وفي هذا العمل منه صلى الله عليه وسلم تشريع لأمته بملازمة الاستغفار والإنابة إلى الواحد القهار.
* بعض فوائد الاستغفار:
1) حصول المغفرة من رب العالمين، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) النساء: 110.
2) أنه سبب لسعة الرزق، قال نوح عليه الصلاة والسلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهارًا) نوح: 10-12.
3) أنه سبب لدفع المصائب ورفع البلايا؛ فالمصيبة تنزل في كثير من الأحيان بذنب، فإذا أحدث العبد استغفارًا وتوبة نصوحًا ترفع المصيبة بإذن الله كما قال تعالى: (ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِرًا عَلِيمًا).
4) الحفظ من عذاب الله أو رفع العذاب كما قال تعالى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) الأنفال: 33.
5) دخول الجنة الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في سيد الاستغفار صلى الله عليه وسلم: (ومن قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة)؛ فالعبد بحاجة دائمًا إلى عون الله ورحمته مهما قدم من الأعمال الصالحة، وفي الاستغفار إثبات العجز عن الكمال في الطاعة والقربات (80).
6) أن يتذكر المسلم دور الاستغفار في تهذيب النفس وتطهيرها وتزكيتها، وأن يدرك أنه يكون سببًا في تفريج أي هم أو كرب، وأن يعلم أنه يكون سببًا في بركة العمر أو الأجل.
7) واقعية هذا الدين: إذ ينظر الإنسان لا على أنه ملك، بل على أنه بشر يخطئ ويصيب، ودواء هذا الخطأ إنما يكون بالتوبة والاستغفار.
8) اهتمام الإسلام بالجانب الروحي في الإنسان: وذلك بتشريع ما يغذيه ويقويه، عكس المذاهب البشرية القائمة الآن، التي أغفلت الروح من حسابها، فصارت الحياة أشبه بغابة ممتلئة بالوحوش والحيوانات المفترسة، والسيادة أو الغلبة فيها للأقوى (81).
* استغفروا ربكم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (83) (إن الرجل لترفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك)، (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا)، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، (ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله تعالى فيها مائة مرة)، (من أحبّ أن تسرّه صحيفته، فليكثر فيها من الاستغفار)، (يا معشر النساء تصدّقن وأكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) آل عمران: 104، قال السعدي رحمه الله: أي: وليكن منكم أيها المؤمنون الذين منّ الله عليهم بالإيمان، والاعتصام بحبله أمة أي: جماعة يدعون إلى الخير وهم اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله ويبعد من سخطه ويأمرون بالمعروف وهو ما عرف بالعقل والشرع حسنه وينهون عن المنكر وهو ما عرف بالشرع والعقل قبحه، وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه، ويدخل في ذلك العلماء المعلمون للدين، والوعاظ الذين يدعون أهل الأديان إلى الدخول في دين الإسلام، ويدعون المنحرفين إلى الاستقامة، والمجاهدون في سبيل الله، والمتصدون لتفقد أحوال الناس، وإلزامهم بالشرع كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج، وغير ذلك من شرائع الإسلام، وكتفقد المكاييل والموازين، وتفقد أهل الأسواق، ومنعهم من الغش والمعاملات الباطلة، وكل هذه الأمور من فروض الكفايات كما تدل عليه الآية الكريمة في قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ …)، أي: لتكن منكم جماعة يحصل المقصود بهم في هذه الأشياء المذكورة، ومن المعلوم المتقرر أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، فكل ما تتوقف هذه الأشياء عليه فهو مأمور به، … وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها، وبناء المدارس للإرشاد والعلم ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع في الناس بالقول والفعل والمال، وغير ذلك مما تتوقف هذه الأمور عليه، وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم خواص المؤمنين ولهذا قال تعالى عنهم: (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالمطلوب الناجون من المرهوب.
ومن هنا يتضح للمسلم خطورة العزوف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه يترتب عليه جميع الخير المذكور في هذه الآية وغيرها وعكسه كذلك، لذلك شدد النبي صلى الله عليه وسلم على إحياء هذه الشعيرة، وحذر بيمينه أننا إن لم نقم بهذه الفريضة فنحن معرضين للعذاب الشديد، وهذا ما نراه ظاهرًا في هذا الموقف.
عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) (84)، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل عمله، لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق، وانمحت عنها مراقبة الخالق، واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعزّ على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم … (85).
* ما يستفاد من الحديث:
1) ماهية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المعروف هو اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيشمل الاعتقاد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ونحوها، ويشمل العبادات، والنظم والتشريعات، ويشمل الأخلاق، وسمي معروفًا؛ لأن الفطر المستقيمة، والعقول السليمة تعرفه، وتشهد بخيره وصلاحه، ومعنى الأمر بالمعروف: الإتيان به، مع الترغيب فيه، وتمهيد أسبابه وسبله بصورة تثبت أركانه، وتوطد دعائمه، وتجعله السمة العامة للحياة جميعًا، والمنكر: اسم جامع لكل ما يبغضه الله ولا يرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة؛ فيشمل الشرك بكل ألوانه وصوره، ويشمل الأمراض القلبية من الرياء والحقد والعداوة والبغضاء ونحوها، وفوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أ) السلامة من العقاب الإلهي، والظفر برضوان الله وجنته، إذ يقول سبحانه (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) الأعراف: 165.
ب) حماية الأرض من أن تتحول إلى بؤرة من الشر والفساد الذي يصعب معه تحقيق معنى العبودية لله عز وجلّ، إذ يقول سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) البقرة: 251.
ج) إقامة الحجة على المصرين والمعاندين، قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) النساء: 165.
د) للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثره التشريعي في حراسة جميع الشؤون العامة والخاصة في الأمة.
وعواقب التقصير في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أ) التعرض للغضب والسخط الإلهي في الدنيا المتمثل في اللعن والطرد من رحمة الله مع التباغض والفرقة، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل فيهم العامل الخطيئة، فنهاه الناهي تعزيرًا، فإذا كان من الغد جالسه وواكله، وشاربه، كأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض على لسان دواود وعيسى ابن مريم، (ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على أيدي المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم) (86).
ب) تمكن الباطل وسيادته، الأمر الذي يؤدي إلى أن تتحول الأرض إلى بؤرة من الشر والفساد.
ج) إعطاء الكسالى والمصرين من الناس المبرر للقعود، بدعوى أنهم لم يجدوا من يرشدهم ويأمرهم، وينهاهم ويدلهم على الله.
د) فقدان الناس لمعنى الأمن في أنفسهم، بل وفي أهليهم، وذويهم وأموالهم الأمر الذي يؤدي إلى الكسل والتواني بل والقعود عن أداء الواجب وقد أشار الحديث إلى كل هذه العواقب في قوله صلى الله عليه وسلم: (أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).

* العوامل التي تساعد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1- تذكر أنه أمر الله ورسوله، ولا يسعَ المسلم الصادق أمام أمر الله ورسوله إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا.
2- النظر في الفوائد المترتبة على القيام به.
3- دوام النظر في الكتاب والسنة لمعرفة مصير الأمم التي أعرضت عن القيام بهذا الواجب، وحسن عقبى الأمم التي قامت بهذا الواجب.
4- دوام المطالعة لتاريخ الأمة الإسلامية للوقوف على مدى عناية هذه الأمة بهذا الواجب، وعدم توانيها أو تقصيرها فيه لحظة واحدة.
5- اليقين بأن هذا الواجب لن يقصر من عمر أو يضيع من رزق، كما أن القعود عنه لن يطيل من عمر أو يزيد في رزق؛ فإن الآجال والأرزاق بيد الله عزّ وجل، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها.
6- مجاهدة النفس لتتحلى بشروط وآداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر الذي ييسر على النفس سبيل القيام بهذا الواجب من دون تقصير ودون توانٍ.
7- اعتماد أسلوب التخويف من العاقبة في التربية: وهذا واضح في الحديث وفي القرآن الكريم، فإن مادة الإنذار تكررت في القرآن الكريم نحوًا من مائة وعشرين مرة.
8- عظم منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له منزلة عظيمة عند الله ورسوله، حتى إن الله ليغضب على المقصرين فيه، المتهاونين به غضبًا يتمثل في إنزال العقاب بهم، وعدم إجابة الدعاء لهم إذا هم دعوه (87).

يا حنظلة! ساعة وساعة:
الإسلام دين واقعي لا يحلّق في أجواء الخيال والمثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع، ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ولكنه يعاملهم بشرًا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؛ لذلك لم يفرض على الناس -ولم يفترض فيهم- أن يكون كل كلامهم ذكرًا وكل صمتهم فكرًا، وكل سماعهم قرآنًا، وكل فراغهم في المسجد، وإنما اعترف بهم وبفطرتهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها، وقد خلقهم سبحانه يفرحون ويمرحون ويضحكون ويلعبون، كما خلقهم يأكلون ويشربون، ولقد بلغ السمو الروحي ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مبلغًا ظنوا معه أنه الجد الصارم، والتعبد الدائم لا بد أن يكون ديدنهم، وأن عليهم أن يديروا ظهورهم لكل متاع الحياة، وطيبات الدنيا، فلا يلهون، ولا يلعبون بل تظل أبصارهم وأفكارهم متجهة إلى الآخرة ومعانيها بعيدة عن الحياة ولهوها (88)، وسترى في هذا الموقف كيف أنه صلى الله عليه وسلم صحح تلك المفاهيم، وفي الوقت نفسه أكّد على الحقيقة التي يجب أن تغرس في النفوس وهي فضل الذكر، وفضل الإخلاص لله رب العالمين، وذلك بقوة اليقين وكذا صدق الالتجاء إلى الركن الركين جل وعلا، وأقسم أن الإنسان لو ظل على هذه الحالة لصافحته الملائكة لشدة اليقين والإيمان الذي عنده، وإلى الموقف النبوي الكريم.
عن حنظلة الأسيديّ رضي الله عنه قال: -وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت؟ يا حنظلة! قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة، حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك، تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنّا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن، يا حنظلة! ساعة وساعة) “ثلاث مرات” (89)، إن في جنس الإنسان جانبًا لا بد من مراعاته، وحاجة -غير حاجته إلى الجد والانضباط- لا بد من إشباعها، وأداء حقها، وإلا كانت النتيجة هي الفشل التام، والعجز والقعود المطلق عن أنه يحصل القليل الأقل في باب الجد والعمل، ذلك الجانب هو الاستجمام والترويح والترفيه، وإن المواظبة على الحزم والجد في كل حال شاقة على النفس، وتورث الملل والضيق ذلك؛ لأن النفس مجبولة على المراوحة بين الأشياء؛ فهي تنتقل من عمل إلى آخر، ومن قول إلى قول، وتختلف فيما بين الجد والفكاهة، وتجد راحتها في عمل ما ترغب في القيام به، ولا تكاد تتقنه حتى تمله، وتبحث عن عمل آخر، ولا تزال مصغية إلى قول معين، فإذا ملّت طلبت حديثًا من نوع آخر، ولعل هذا التحول في النفس هو الذي يعنيه الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال هذا التوجيه لصحابته كما في الحديث السابق.
* ما يستفاد من الحديث:
1- فعل الإنسان متوسط بين عالم الملائكة وعالم الشياطين: قال الشيخ الأبّي رحمه الله عقب هذا الحديث: سنة الله تعالى في عالم الإنسان أن فعله متوسط بين عالم الملائكة وعالم الشياطين، فمكّن الملائكة من الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الليل والنهار لا يفترون، ومكّن الشياطين من الشر والإغواء بحيث لا يغافلون، وجعل عالم الإنسان متلونًا، وإليه أشار صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) (90)، والرواية الثانية لمسلم -رحمه الله- لحديث حنظلة رضي الله عنه أوضح ما يكون وأدقّ في الدلالة على جبلية الترويح في النفس الإنسانية مهما حاول الإنسان الانفلات من إنسانيته وطبيعته البشرية، قال حنظلة: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار، قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر.. “الحديث”، فإقراره صلى الله عليه وسلم لتلون نفس حنظلة رضي الله عنه وتقلّبها بين مجالات الجسد وأنماط العبادات من جهة، وبين متطلبات النفس من مرح وانبساط من جهة أخرى؛ اعتراف شرعي ودليل سماوي على اعتبار الترويح والترفيه من كمالات النفس ولوازمها الأساسية لأداء حقوق الخالق والمخلوق بإيقاع ثابت مستمر على ممر الأيام.
2- عدل الشريعة الإسلامية وكمالها: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: وهذا من عدل الشريعة الإسلامية وكمالها، أن الله عز وجلّ له حق فيعطى حقه عز وجلّ، وكذلك للنفس حق فتعطى حقها، وللأهل حق فيعطون حقوقهم، وللزوار والضيوف حق فيعطون حقوقهم، حتى يقوم الإنسان بجميع الحقوق التي عليه على وجه الراحة، ويتعبد الله عز وجلّ براحة؛ لأن الإنسان إذا أثقل على نفسه وشدد عليها تعب وملّ، وأضاع حقوقًا كثيرة.
3- والتنويع بين المطالعات أمر مهم: فإذا طلب الإنسان العلم ورأى في نفسه مللاً في مراجعة كتاب ما فلينتقل إلى كتاب آخر، وإذا رأى من نفسه مللاً من دراسة فن معين فإنه ينتقل إلى دراسة فن آخر، وهكذا يريح نفسه، ويحصل علما كثيرًا، أما إذا أكره نفسه على الشيء حصل له من الملل والتعب ما يجعله يسأم وينصرف إلا ما شاء الله فإن بعض الناس يكره نفسه على المراجعة والمطالعة والبحث مع التعب، ثم يأخذ على ذلك ويكون هذا أمرًا دائمًا له، ويكون ديدنا له (91).
4- ينبغي للعبد مراقبة نفسه وتفقد أحوالها: وهذا ظاهر من فعل أبي بكر وحنظلة رضي الله عنهما، فلقد ذهبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوان له ما ظنا أنه نفاق حتى جلّى لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم الأمور، وهكذا يجب على المسلم أن يراقب نفسه في جميع الأحوال في يسرها وعسرها، وفي منشطها ومكرهها، ويجاهدها حتى تستقيم على دين الله تعالى، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الشمس: 9-10.
5- يجوز قول سبحان الله عند التعجب من شيء: وهذا واضح في الحديث، فلقد استغرب أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا من كلام حنظلة رضي الله عنه، كيف يتهم نفسه بالنفاق؟ فسبح الله تعالى! وكذلك ينبغي للمرء أن يرد ما في نفسه من تعجب أو انبهار أو تردد أو تذمر إلى الله سبحانه، لا كما يفعل بعض الناس في البلاد التي انتشرت فيها صور الشرك من أضرحة يطاف حولها وغير ذلك، ترى بعضهم إذا ما تعجب من أمر قال ما ينبئ عن معتقده الرديء فتراه يردد أسماء بعض من يسمون بالأولياء وكأنه يستغيث بهم بل فعلاً هي استغاثة فتراه يقول يا (بدوي) أو يا (دسوقي) أو يا (رفاعي) وهكذا فالله المستعان وعليه التكلان.
6- ينبغي للعالم أن يكون حكيمًا في معالجة الأمور: فأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهر ولم يزجر حنظلة رضي الله عنه عند ما قال له ما قال، بل سأله واستفسر منه بتأن فقال: (وما ذاك؟ فلم يحكم عليه مباشرة بما تستحقه هذه اللفظة، بل وقف على الحقيقة أولاً ثم بين ما التبس عليهم.
7- قلوب العباد تتغير من حال إلى حال: نعم، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والقلوب أشد تقلّبًا من غليان الماء في القدر؛ فعلى المسلم ألايركن إلا إلى الله، ويسأل الله الثبات على كل، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يدعو به قوله: (يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك)، وهاهم الصحابة رضوان الله عليهم، الواحد منهم ينكر قلبه أحيانًا، ويذهب إلى طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم حتى يداوي جراحه، ويلملم أتراحه؛ فالقلب عند الموعظة في حال، وفي الصلاة في حال، وفي النوائب في حال، وفي الرخاء في حال وكذا في الشدة، والمكره والمنشط، فيا مثبت الإيمان ثبّت إيماننا، ويا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك.

ترهيب الزوجة من هجرها لفراش زوجها:
لقد تضافرت الجهود العدائية ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان، ومن أشد هذه الهجمات الشرسة التي تريد النيل من شباب الأمة هذه اللوثة الفكرية، والحملة الفضائية التي تبث سمومها في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، حتى إن هذه الدشوش التي تبث إلينا الإعلام الغربي، والبرامج المنحلّة دمرت كثيرًا من العقول التي يفترض لها أن تكون حصنًا للأمة الإسلامية ضد أعدائها، حتى إن المرء أحيانًا لا يكاد يفرق بين بعض الشباب والفتيات للتخنث الذي أصاب بعضهم والعياذ بالله تقليدًا لهذا الغرب؛ فالشهوات صارت هي الغاية عند فئة ليست بالقليلة من أبناء المجتمع الإسلامي، وتعرف هذه الحقيقة إذا ما رأيت وتأمّلت تلك الفئات وهي عاكفة حول شاشات هذه الأطباق الفضائية التي تدمر ولا تبني، فهي تهدم الأخلاق الحسنة جملة وتفصيلاً، وتكسو من يعكف عليها القحة ومرذول الأخلاق جميعًا، فمن هنا كان على المرأة المسلمة التي رزقها الله بزوج أن تحافظ عليه، وأن تحاول جاهدة في غض طرفه عن الحرام وذلك بتمكينه مما أحل الله له حتى لا يسقط في مهب هذه الرياح الهوجاء، وعندها لا ينفع الندم، فمن أجل هذا وغيره حذر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة المسلمة أن تهجر فراش زوجها لهذه العلة وغيرها ورهبها من مغبة هذا العصيان الآثم بقوله فانصتي أخيتي إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تتجنبي العذاب واللعن من الملائكة ومغبة هذا اللعن هو الطرد من رحمة الله والعياذ بالله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها) (92)، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) (93)، المرأة المؤمنة الحصيفة العاقلة إذا ما تغير طبعها، وأرادت أن تهجر فراش زوجها، وتمتنع وتأبى عليه، فما عليها إلا أن تذكر لعنة الملائكة، التي تؤمن بها، وقبل ذلك عليها أن تستشعر غضب وسخط الذي في السماء عز وجلّ، فإن ذلك يزجرها، ويهيئها لطاعة زوجها، فإنه جنتها ونارها، فلتنظر أين هي من ذلك، ويمكن أيضًا أن يقال إن هناك أمورًا تغضب الرجل أكثر من امتناع زوجته عليه، فعلى المرأة التقية أن تتجنب ذلك، وترجع عن كل ما يؤذي زوجها، وإلا فما الذي يؤمّنها سخط الله تعالى ولعنة الملائكة إياها والعياذ بالله.
* ما يستفاد من الحديث:
1- اللعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله: معنى لعن الملائكة أنها تدعو على هذه المرأة باللعنة، واللعنة هي الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فإذا دعاها إلى فراشه ليستمتع بها بما أذن الله له فيه فأبت أن تجيء، فإنها تلعنها الملائكة -والعياذ بالله- أي تدعو عليها باللعنة إلى أن تصبح.
2- غضب الله تعالى على الهاجرة لفراش زوجها: واللفظ الثاني: أنها إذا هجرت فراش زوجها، فإن الله تعالى يغضب عليها حتى يرضى عنها الزوج، وهذا أشد من الأول؛ لأن الله تعالى إذا سخط فإن سخطه أعظم من لعنة الإنسان، نسأل الله العافية.
3- الله يغضب حتى يرضى الزوج: قال صلى الله عليه وسلم: (إلا الذي كان في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى عنها) أي الزوج، وهناك قال: (حتى تصبح)، أما هنا: فعله برضا الزوج، وهذا قد يكون أقل، وقد يكون أكثر، يعني ربما يرضى الزوج عنها قبل طلوع الفجر، وربما لا يرضى إلا بعد يوم أو يومين، المهم ما دام الزوج ساخطًا عليها فإن الله عز وجلّ ساخط عليها، وفي هذا دليل على عظم حق الزوج على زوجته، ولكن هذا في حق الزوج القائم بحق الزوجة، أما إذا نشز ولم يقم بحقها، فلها الحق أن تقتصّ منه وألا تعطيه الحق كاملاً؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) النحل: 126، لكن إذا كان الزوج مستقيمًا قائمًا بحقها فنشزت هي وضيعت حقه فهذا جزاؤها إذا دعاها إلى فراشه فأبت أن تأتي.
4- الله عز وجلّ في السماء فوق عرشه، فوق سبع سموات: في هذا الحديث: دليل صريح لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وسلف الأمة من أن الله عز وجلّ في السماء هو نفسه جل وعلا، فوق عرشه، فوق سبع سموات، وليس المراد بقوله في السماء في ملكه في السماء، بل هذا تحريف للكلم عن مواضعه، هذه جارية أمة مملوكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أراد سيدها أن يعتقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعها) فجاءت الجارية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: الله في السماء، قال: (من أنا) قالت: أنت رسول الله، قال لسيدها: (اعتقها فإنها مؤمنة)، المهم: أن من عقيدتنا التي ندين الله بها أن الله عز وجلّ فوق كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وأنه على العرش استوى، وأن العرش على السموات مثل القبة، كأنه قبة، أي: خيمة مضروبة على السموات والأرض، والسموات والأرض بالنسبة للعرش ليست بشيء؛ فهذه عقيدتنا التي نسأل الله تعالى أن نموت عليها ونبعث عليها، هذه العقيدة التي يعتقدها أهل السنة والجماعة بالاتفاق (94).
5- وجوب طاعة الزوجة لزوجها: خاصة إذا دعاها لفراشه ولم يكن بها عذر، لأن أقوى الأمور التي تشوّش على الرجل داعية النكاح، ولذلك حضّ الشارع الحكيم النساء على مساعدة الرجل في ذلك، لغض بصره، وحفظ فرجه.

ما يباح به دم المسلم:
من الضروريات التي جاء الدين بالمحافظة عليها، والعناية بها حفظ النفس، ومن ثم أوجب العناية بتوفير كل ما تتحقق به حمايتها وبقاؤها، قال تعالى:
(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا) النساء: 29، وقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأنعام: 151، وقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) المائدة: 32، وغير ذلك من الآيات كثير في كتاب الله تعالى أما إذا كان في بقاء هذه النفس فساد الدين، أو إزهاق الأنفس الكثيرة، فيتعين حينئذ الخلاص منها تقديمًا للمصلحة الأعظم على المصلحة الأدون، وللمصلحة الأعم على المصلحة الأخص.
وهناك حالات ذكرها المعصوم صلى الله عليه وسلم تبيح دم المسلم وتحلّها، وهي من الخطورة بمكان، لذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم بمفهوم المخالفة من بقاء هذه الفئات تسعى على وجه الأرض، وحض على الخلاص منها نشرًا لكلمة الله، وتحقيقًا للأمن والأمان بين المسلمين.
عن عبد الله قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي لا إله غيره! لا يحل دم رجل مسلم يشهد ألا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا ثلاثة نفر: التارك الإسلام، المفارق للجماعة أو الجماعة -شك فيه أحمد- والثيّب الزاني، والنفس بالنفس) (95)، الإسلام ينشد مجتمعًا طاهرًا آمنًا خاليًا من الفواحش والمنكرات والموبقات المهلكات، يأمن فيها المسلم على نفسه وأهله وماله ودينه، ويحيا حياة الطهر والعفاف، ويعيش هادئ النفس، مطمئن القلب، مرتاح البال، وما ذكره الحبيب صلى الله عليه وسلم باستحلال دماء من ذكرهم في الحديث إذا خلت منهم الأرض عمّ ما ذكرته آنفًا من الأمن والرخاء، وصفاء العقيدة وغير ذلك من مظاهر السعادة والسرور.
* ما يستفاد من الحديث:
1- حرمة دم المسلم: وهذا ظاهر من قوله وقسمه صلى الله عليه وسلم: (والذي لا إله غيره! لا يحل دم رجل مسلم يشهد ألا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر …) فما دام أن المسلم قد استقام على دينه ولم يقع فيه هذه الموبقات التي تسفك دمه فيجب الحفاظ عليه، والحذر ثم الحذر من قتله أو سفك دمه؛ لأن الله عز وجلّ نهى عن ذلك أشد النهي فقال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا) النساء: 93 فهل سمعنا عن مثل هذا العقاب الإلهي لأي كبيرة مهما عظمت إلا في هذا الموطن؟ وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهانًا. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) الفرقان: 68-70، ومن قتل يقتل، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة: 179.
2- قتل التارك لدينه المفارق للجماعة: قال النووي: وهذا عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضًا كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج والله أعلم، واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه، فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدًا إلا في هذه الثلاثة والله أعلم.
3- الزاني الثيب يقتل رجمًا: لحديث عمر رضي الله عنه قال: (إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف: وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) “متفق عليه”، والآيات والأحاديث في الزجر عن الزنى كثيرة جدًا تنظر في مظانها.
4- القاتل عمدًا يقتل إذا لم يعفَ عنه أولياء الدم: لقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) البقرة: 178، قال السعدي رحمه الله: بيّن تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال: (ولكم في القصاص حياة) أي: تنحقن بذلك الدماء، وتنقمع به الأشقياء؛ لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رؤي القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل وهكذا سائر الحدود الشرعية، فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار، وذكر “الحياة” لإفادة التعظيم والتكثير.

لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً: … رأيت الجنة والنار تأمل وتفكر في أهل الجنة وفي وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل، ومحفوفة بالغلمان والولدان، مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، آمنات من الهرم، مقصورات في الخيام، ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون، في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم، لا يرهقهم قتر ولا ذلة بل عباد مكرمون، وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون، فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يخافون فيها ولا يحزنون وهم من ريب المنون آمنون، فهم يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنَا وخمرًا وعسلاً، فيا عجبًا ممن يؤمن بدار هذه صفتها، ويوقن بأنه لا يموت أهلها، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها، ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها، كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها، ويهنأ بعيش دونها، والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت والجوع والعطش لكان جديرًا بأن يهجر الدنيا بسببها وألا يؤثر عليها ما التصرم والتنغّص من ضرورته، كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرور متمتعون، لهم فيها ما يشتهون وهم بفناء العرش يحضرون، وإلى وجه الله الكريم ينظرون (96).
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا) قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: (رأيت الجنة والنار) (97)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… والذي نفس محمد بيده، لقد أدننيت الجنة مني حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها، ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم، حتى رأيت فيها امرأة من حمير تعذّب في هرة ربطتها فلم تدعها تأكل من خشاش الأرض، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها حتى ماتت، فلقد رأيتها تنهشها إذا أقبلت وإذا ولّت تنهش أليتها …) (98)، وفي رواية للبخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (…. إني رأيت الجنة، فتناولت عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أرَ منظرًا كاليوم قط أفظع) (99)، يحذرنا الإمام الغزالي من النار التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ويصفها رحمه الله بقوله: فأسكنوا -أي أهل النار- دارًا ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، شرابهم فيها الحميم، ومستقرهم الجحيم، الزبانية تقمعهم، والهاوية تجمعهم، أمانيهم فيها الهلاك، وما لهم منها فكاك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، ينادون من أكنافها، ويصيحون في نواحيها وأطرافها، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود، فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان، ولا خروج لكم من دار الهوان، فاخسأوا فيها ولا تكلمون، ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون، فعند ذلك يقنطون، وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون، ولا ينجيهم الندم، ولا يغنيهم الأسف، بل يكبون على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم، فهم غرقى في النار، طعامهم نار، وشرابهم نار، ولباسهم نار، ومهادهم نار، فهم بين مقطعات النيران، وسرابيل القطران، وضرب المقامع، وثقل السلاسل، فهم يتجلجلون في مضايقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضربون بين غواشيها، تغلى بهم النار كغلي القدور، ويهتفون بالويل والعويل وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون (100).
* ما يستفاد من الحديث:
1- خطورة أمر الجنة والنار: وهذه الفائدة تظهر لنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده!) فهذا قسم شديد على نفس الصالحين، وتلك الشدة، وهذا الهمّ الكبير في هذا القسم يتضح لنا فيما جاء بعد هذا القسم من قوله صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)؛ فاهتم لذلك الصحابة، وثارت شجونهم فسارعوا بالسؤال: وما رأيت يا رسول الله؟ ما هذا الذي رأيته يجعلنا نقلّ من الضحك، ونكثر من البكاء لأجله!! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار)؛ إذًا، فأمر الجنة والنار يجب أن تهتم له النفس التوابة الأوابة، فشأنهما والله خطير وهذا يتضح فيما يأتي.
2- صورة من نعيم الجنة: وهذه الصورة التي تأخذ بلبّ عباد الله الصالحين هي التي ذكرها حبيب الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (والذي نفس محمد بيده، لقد أدنيت الجنة مني حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها»)، وهذا مما يزيد يقين المسلم بنعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيعمل لها، ويأخذ بالأسباب لدخولها، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا النعيم الأبدي وجلّاه لنا بقوله: (إني رأيت الجنة فتناولت عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا).
3- صورة من عذاب النار والعياذ بالله: نسأل الله العافية منها قال صلى الله عليه وسلم: (ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم)، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تعذّب في النار في هرة ربطتها فلم تدعها تأكل حتى ماتت، فكان عقابها أن تصلى نارًا ذات لهب، لا تموت فيها ولا تحيا، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم منظر هذه النار بقوله: (وأريت النار، فلم أرَ منظرًا كاليوم قطّ أفظع)، وهذه الصورة من أقلّ وأخفّ الصور والمناظر في عذاب جهنم، فلقد سمعنا أخبارها، التي تشيب من هولها الرؤوس، وتتقطع من أحوالها أفئدة عباد الله الصالحين.
4- دع التفكير فيما أنت مرتحل عنه: قال الغزالي رحمه الله: يا أيها الغافل عن نفسه، المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال، دع التفكير فيما أنت مرتحل عنه، واصرف الفكر إلى موردك، فإنك أخبرت بأن النار مورد للجميع، إذ قيل: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) مريم 71-72، فأنت من الورود على يقين ومن النجاة في شك، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه (101).
5- معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وعلم من أعلام نبوته: وهذه المعجزة الباهرة ظاهرة من دنوّ الجنة له صلى الله عليه وسلم وأيضًا دنوّ النار، وجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر من المعجزات الباهرات والتي هي علم من أعلام نبوته؛ إذ مد يده إلى قطف من قطوف الجنة وتناوله ولو أخذه لكان ما أخبر به، ورأى المرأة تعذّب في النار، ورأى أخا بني الدعداع يدفع بعصا ذات شعبتين في النار، ورأى فيها صاحب المحجن الذي كان يسرق الحاجّ بمحجنه متكئًا على محجنه في النار يقول: أنا سارق الحجيج، وهذا ثابت في هذا الحديث نفسه الذي عند النسائي.
6- الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان: هذا الحديث وغيره كثير من الأدلة الدامغة والقاطعة على أن الجنة والنار مخلوقان الآن، قال ابن القيم رحمه الله: لم يزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم وأهل السنة والحديث قاطبة وفقهاء الإسلام وأهل التصوف والزهد على اعتقاد ذلك وإثباته، مستندين في ذلك إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فإنهم دعوا الأمم إليها، وأخبروا بها؛ ولهذا يذكر السلف في عقائدهم: أن الجنة والنار مخلوقتان (102).
7- شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته: قال صلى الله عليه وسلم: (ولقد أدنيت النار مني حتى لقد جعلت أتقيها خشية أن تغشاكم) وهذا يدل على رحمته وشفقته على أمته في الدنيا والآخرة فصلى الله عليه وسلم.

وإني والله! لأنظر إلى حوضي الآن:
قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) الكوثر: 1، قال الجزائري حفظه الله: هذه الآيات الثلاث مختصة برسول الله إذ هو المخاطب بها وأنها تحمل طابع التعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه لما مات ابن النبي صلى الله عليه وسلم القاسم قال العاص بن وائل السهمي بتر محمد أو هو أبتر، أي: لا عقب له بعده فأنزل الله تعالى هذه السورة تحمل الرد على العاص والتعزية للرسول صلى الله عليه وسلم والبشرى له ولأمته بالكوثر الذي هو نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدرر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج، ومن الكوثر يملأ الحوض الذي في عرصات القيامة ولا يرده إلا الصالحون من أمته صلى الله عليه وسلم؛ فقوله تعالى: (إنّا أعطينك) أي: خصصناك بالكوثر الذي هو نهر في الجنة من أعظم أنهارها مع الخير الكثير الذي وهبه الله تعالى لك من النبوة والدين الحق ورفع الذكر والمقام المحمود.
والكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض فهو مادة الحوض قاله ابن حجر في الفتح وهذا الحوض من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام ومكرماته في الآخرة ولقد ورد أن لكل نبي حوضًا، وجاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بوجود الحوض الآن ومن هذا ما أقسم عليه في هذا الحديث، وذلك لعظم شأن الحوض، وأهمية تعريف الأمة به؛ حتى يأخذوا بأسباب الورود عليه.
عن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يومًا فصلّى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني، والله! لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله! ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها) (103)، وعن أسماء بنت أبي بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني على الحوض حتى أنظر من يرد عليّ منكم، وسيؤخذ أناس دوني، فأقول: يا رب! مني ومن أمّتي، فيقال: أما شعرت ما عملوا بعدك؟ والله! ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم)، قال: فكان ابن مليكة يقول: اللهم! إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن عن ديننا. (1104)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه: (إني على الحوض، أنتظر من يرد عليّ منكم، فوالله! ليقتطعن دوني رجال، فلأقولن: أي ربّ! مني ومن أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم) (105)، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! ما آنية الحوض؟ قال:
(والذي نفس محمد بيده! لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها، ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله، ما بين عمان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل) (106)، في يوم القيامة، يوم الطامة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم تشيب فيه رؤوس الولدان، يوم ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، في هذا اليوم العصيب يبعث الناس من قبورهم عطاشى فالشمس فوق الرؤوس قدر ميل، والعرق قد سال من الناس حتى لو أن السفن أجريت في هذا العرق لجرت، ففي هذا اليوم، يوم العطش والمسكنة والجوع ترى العناية الإلهية بأهل التقوى والإيمان والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم أظهر ما تكون في هذا اليوم شديد الحرّ والزحام، حتى إن البعض من أهل الموقف يتمنى الانطراف ولو إلى النار من هول هذا الموقف الرهيب، ويظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الحوض، يرد عليه أتباعه يشربون من حوضه ماء أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأعذب من كل عذب، يشربون فيرتوون، فيذهب عنهم الظمأ المحموم، وعطش المكلوم، فترى الناس تكاد تنقطع أعناقهم التي مالت من العطش، أما الذين لم يبدّلوا ولم يغيّروا ولم يرتدّوا على أعقابهم قد علتهم نضرة الريّ من حوض الحبيب صلى الله عليه وسلم، فاللهم امنن علينا بفضلك في هذا اليوم العظيم.
* ما يستفاد من الأحاديث:
1- وجوب الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحوض المورود، ومن أنكر ذلك فهو فاسق مبتدع، وقد نفته المعتزلة، والأحاديث الصحيحة حجة عليهم، قال القاضي عياض رحمه الله: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة، لا يتأول ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات، وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترًا (107).
2- خلاصة صفة الحوض كما في الأحاديث الصحيحة: قال العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في الطحاوية: والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر، الذي هو أشد بياضًا من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحًا من المسك، وهو في غاية الاتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث: أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في خلاله من المسك والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء، وقد ورد أن لكل نبي حوضًا، وأن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأحلاها وأكثرها واردًا، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه (108).
3- اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على الحوض يتقدمنا هناك، ينتظر أتباعه وأصحابه الذين طالما نصروه واووه، وفدوه بأرواحهم، وبالغالي والنفيس، يقل الحبيب صلى الله عليه وسلم ينتظر الذين اتبعوه وآمنوا به ولم يروه، يتلهف لسقيا الذين تمنوا رؤيته في هذا اليوم العظيم، وفي هذا المقام الكبير، يتطلع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حوضه المورود إلى أمته فإذ به صلى الله عليه وسلم يفاجأ بما يسوؤه … يرى أناسًا يؤخذون ويردّون من على الحوض فيشفق الحبيب صلى الله عليه وسلم على هؤلاء فينادي، يا رب! يا رب! منّي ومن أمتي!
فهذا شيء غير متوقّع أن يحجز من أمة النبي صلى الله عليه وسلم أحد يرد على الحوض ولكنه الردّ الحاسم، الردّ الذي يظهر الحقيقة في هذا اليوم، الردّ الذي يميّز بين الحق والباطل في هذا اليوم العظيم، فأما الزبد فيذهب جفاء، ينادي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أي رب! أصيحابي، أصيحابي) فيأتي الردّ للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم) وفي رواية: (إنك لا تدري ما عملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم) وفي رواية: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) عندئذ يجيب النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (سحقًا سحقًا لمن بدّل بعدي)؛ فاللهم إنا نعوذ بك أن نبدّل، أو نغيّر، أو نرجع على أعقابنا.
4- معجزة وعلم من أعلام النبوة: وهذا ظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإني والله! لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض).
5- زهد النبي صلى الله عليه وسلم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض) ومع ذلك نرى منه الإعراض التام عن الدنيا وزينتها، فلم تكن في قلبه يومًا ما، بل حذر منها، وحذّر منها في عشرات الأحاديث الصحيحة والثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وصور زهده وإعراضه عن الحياة والزهد العظيم فيها شيء قد استفاض عنه وعلم به القاصي والداني، وشهد له بذلك الأعداء أنفسهم.
6- الحذر من الدنيا وزخارفها: قال صلى الله عليه وسلم: (وإني والله! ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها)، وقد كان ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأين هذا الذي أعرض عن الدنيا ولم ينافس فيها -إلا من رحم الله- حتى جعلها إلهه ومعبوده شعر بذلك أولم يشعر، فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم آمين.
7- من شرب من الحوض لن يظمأ بعد ذلك أبدًا: قال صلى الله عليه وسلم: (فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبدًا) وقال أيضًا في حديث آخر: (من ورده فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا)
وتلك منّة من الله تعالى، وفضل منه عظيم، على أمة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم شديد الكرب والهول، أن يسقى أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحر والقيظ الشديد، فتبرد جوارحهم، وتلين أعضاؤهم، وتترطب أشداقهم، فلا يقاسون ما يقاسيه الآخرون من شدة العطش، ويبس الشفاه، وتقطيع الأمعاء، فاللهم اسقنا من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم آمين.
8- ليرجِ كل عبد أن يكون في جملة الواردين، وليحذر التمني الكاذب: يقول الإمام الغزالي في الإحياء: فليرج كل عبد أن يكون في جملة الواردين، وليحذر أن يكون متمنيًا ومغترًا وهو يظن أنه راجٍ، فإن الراجي للحصاد من بثّ البذر، ونقّى الأرض، وسقاها الماء، ثم جلس يرجو فضل الله بالإنبات، ودفع الصواعق إلى أوان الحصاد، فأما من ترك الحراثة أو الزراعة وتنقية الأرض وسقيها وأخذ يرجو من فضل الله أن ينبت له الحب والفاكهة فهذا مغتر ومتمنّ وليس من الراجين في شيء، وهكذا رجاء أكثر الخلق وهو غرور الحمقى، نعوذ بالله من الغرور والغافلة فإن الاغترار بالله أعظم من الاغترار بالدنيا قال تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) لقمان: 33 (109).
9- من هم المطرودون عن الحوض المبعدون عنه؟ يقول الإمام القرطبي في التذكرة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله، أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه، وأشرهم طردًا من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفّون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع، ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ثم يقال لهم سحقًا، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون الإيمان ويسرّون الكفر فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم: سحقًا سحقًا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد يقال: إن من أنفذ الله عليه وعيده من أهل الكبائر إنه وإن ورد الحوض وشرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش والله أعلم (110).

المراجع:
(1) من لطائف التفسير، أحمد فرح عقيلان، دار اليقين-المنصورة-مصر، ج1ص299-302
(2) مسلم: كتاب الأيمان، باب: اليمين على نية المستحلف رقم 4260.
(3) مسلم: كتاب الأيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة رقم 351.
(4) البخاري: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رقم 3911.
(5) صحيح: رواه أبو داود، كتاب الأيمان والنذور، باب: المعاريض في اليمين، رقم 3256 وصححه الألباني بهذا الرقم طبعة بيت الأفكار.
(6) رواه أحمد في مسنده 4ص622
(7) أحكام اليمين بالله وجل عزه، خالد المشيقح، دار ابن الجوزي-الدمام، ص304-311.
(8) مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان ألا يدخل الجنة إلا المؤمنون … رقم 192-193، شرح النووي، ج2ص224-225.
(9) شرح النووي على صحيح مسلم، ج2ص224-225.
(10) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، سليم الهلالي، دار ابن الجوزي-الدمام، ج2ص129.
(11) البخاري: كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة 3208
(12) شرح الأربعين النووية، لابن عثيمين، باختصار، دار الثريا، الرياض، ط1، 1424 ه ص83-95
(13) توجيهات نبوية على الطريق، السيد محمد نوح، دار اليقين-مصر-المنصورة، 1418 ه، ص22
(14) صحيح: رواه الترمذي في كتاب الزهد، باب: 44 “بدون” رقم (2377) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني بالرقم السابق.
(15) توجيهات نبوية الطريق، ص22
(16) البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: حفر الخندق، رقم (2835) وينظر هناك أطراف هذا الحديث.
(17) كثيبًا: أي رملاً، كثيبًا أهيل أو أهيم: أي صار رملاً يسيل ولا يتماسك.
(18) البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم (4101).
(19) التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، عبد العزيز الحميدي، ج6ص107.
(20) راجع فتح الباري، طبعة بيت الأفكار ج2ص1813-1822، زاد المعاد، ج3ص240-246، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، باختصار وتصرف، سعيد بن وهف القحطاني، ص285-297
(21) زاد المعاد، ج3ص240
(22) حسن: أخرجه أحمد في المسند (4/303)، والنسائي في الجهاد، باب: غزوة الترك، وحسنه الألباني عند النسائي رقم (3176) طبعة بيت الأفكار الدولية، وحسن إسناده الحافظ في الفتح في غزوة الأحزاب كتاب المغازي، حيث قال: ووقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن عن البراء فذكر الحديث، وللحديث شواهد من حديث ابن عباس عند الطبراني كما قال الهيثمي في المجمع (6/131-132).
(23) خمصًا: خلاء البطن من الطعام.
(24) انكفأت: فرجعت وانقلبت.
(25) البهيمة: السخلة الصغيرة من ولاد الماعز.
(26) داجن: ما ألف البيوت.
(27) السور: الطعام الذي يدعى إليه.
(28) بك وبك: ذمته ودعت عليه.
(29) اقدحي في برمتكم: أي اغرفي.
(30) تركوا، وانحرفوا: شبعوا وانصرفوا.
(31) لتغط: تغلي ويسمع غليانها.
(32) البخاري: كتاب المغازي: باب: غزوة الخندق رقم (4102) ورقم (4101).
(33) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير رقم (3719).
(34) البخاري: كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبا رقم (1035).
(35) قال الهيثمي في المجمع (6/1349-140) رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
(36) البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة الخندق رقم (4109).
(37) مسلم: كتاب الجهاد، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله رقم (4836) (نووي ص313-323).
(38) (زاد المعاد، ج3ص66
(39) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، سليم بن عيد الهلالي، دار ابن الجوزي-الدمام، ط1، 1415 ه، ج2ص419-420
(40) يريا بني: يقال: رابه وارابه، إذا أوهمه، وشككه.
(41) اللطف: البر والرفق.
(42) نقهت: الذي أفاق من مرضه ولم تتكامل صحته.
(43) استعذر: أي طلب من يعذره منه، أي: ينصفه.
(44) البخاري: كتاب التفسير: باب: (لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم …) رقم (4750)، فتح الباري، ج8ص578).
(45) والقرعة هنا إنما تكون بين النساء الصالحات للسفر فمن كانت له زوجتان إحداهن ظاهرة الحمل والأخرى ليست بحامل كان له أن يصطحب من ليست بحامل دون قرعة؛ لأنها القادرة على السفر بيسر وكذا خدمة زوجها، والجدير بالذكر هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه غاية العدل على الرغم من أنه لا يجب عليه ذلك بل يستحب وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
(46) ومن أراد أن يطالع شيئًا من ذلك فليراجع فتح الباري ج8ص613-620
(47) مسلم: كتاب الإيمان: باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، رقم (409) (نووي ج2ص384، وذكرت رواية مسلم لأنها أتم من رواية البخاري حيث أشارت إلى قصة الإسراء والمعراج أما رواية البخاري فاقتصرت على قصة المعراج.
(48) زاد المعاد، ج3ص338-39
(49) فقه السيرة، للبوطي، دار الفكر، ط6، ص120-121
(50) الرحيق المختوم، مكتبة الصحابة-جدة، ص167-168
(51) هذا الحبيب يا محب، الجزائري، مكتبة لينة، ص135
(52) الصحيح عند وجود نص أو قرينة تدل على أن الظاهر غير مراد.
(53) الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، القاضي عياض، دار الكتب العلمية، ج1ص189، ومما يدل على أنه كان يقظة كذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته «. فلو أنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بأنها رؤيا رآها لما اختبروه بالسؤال عن آياته وعلاماته وهذه أيضًا معجزة ثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانظر وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، دار طيبة، ص116-125
(54) البخاري: كتاب الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شئتم رقم (1904).
(55) شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين، دار السلام-القاهرة، ج2ص1393-1394
(56) البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب: فضل: (قل هو الله أحد) رقم (5013-5015).
(57) من لطائف التفسير، أحمد فرح عقيلان، دار اليقين-مصر-المنصورة، ط1، 1419، ه، ج3ص523
(58) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، ج1ص50، وهناك بحث مهم في تفاضل القرآن ينظر عبد الله محمد الغنيمان، دار العاصمة.
(59) شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين، ج2ص1253
(60) من لطائف التفسير، ج3ص524
(61) بهجة الناظرين شرح رياض الصالحين، ج2ص237
(62) مسلم: كتاب التوبة، باب: سقوط الذنوب بالاستغفار توبة، رقم (6899) (نووي، ص17-68
(63) جميع ما ورد من الأحاديث عند مسلم: كتاب التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه رقم (6903) (6908) (6912-6914).
(64) البخاري: كتاب الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوانقه رقم (6016) والبوانق جمع بانقة وهي الداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يأتي بغتة.
(65) مسلم: كتاب الإيمان، باب: التدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه رقم (169).
(66) فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، محمد عبد الله إبراهيم العيدي، مؤسسة الرسالة-بيروت، ط1، 1423 ه، ص526
(67) الترغيب والترهيب، باب: الترهيب من أذى الجار، رقم (3891) طبعة بيت الأفكار.
(68) البخاري: كتاب الأدب، باب: قتل الولد خشية أن يأكل معه، رقم (6001).
(69) بتصرف، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، ص525-532.
(70) جميع ما ورد من الأحاديث من صحيح الجامع للألباني ولقد تركت الإحالات والتخريجات رغبة في الاختصار ولوجودها موثقة في صحيح الجامع.
(71) أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أن تهدي لها ما لا ينتفع به في الغالب وهو “فرسن” حافر شاة.
(72) البخاري: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم” أنا اعلمكم بالله” (20) (فتح، ج1ص95
(73) البخاري: كتاب التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل رقم (1130) (فتح، ج3ص18
(74) البخاري: كتاب الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله أدومه رقم (43) (فتح، ج1ص136
(75) البخاري: كتاب الصوم: باب: حق الجسم في الصوم رقم (1975) (فتح، ج4ص273
(76) من لطائف التفسير، ج1ص168-169
(77) البخاري: كتاب الدعوات، باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة رقم (6307).
(78) مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار منه رقم (6799).
(79) سبق تخريجه وهو عند مسلم.
(80) بتصرف، فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، ص924-933
(82) توجيهات نبوية على الطريق، ص93
(83) جميع ما ورد من الأحاديث من صحيح الجامع وتركت الإحالات رغبة في الاختصار، انظر (ترتيب صحيح الجامع على الأبواب الفقهية/ 3/ 374، 375) رتبه/ عوني نعيم الشريف.
(84) حسن: رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب: ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رقم (2169) وحسنه الألباني بالرقم السابق، طبعة بيت الأفكار.
(85) إحياء علوم الدين، ج2ص333
(86) مجمع الزوائد: كتاب الفتن، باب وجوب إنكار المنكر (7/269) وعزاه إلى الطبراني قائلاً رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(87) بتصرف، توجيهات نبوية على الطريق، ص279-308
(88) الحلال والحرام، القرضاوي، ص264
(89) مسلم: كتاب التوبة، باب: فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، رقم (6900) (نووي، 17-69
(90) إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ج7ص156
(91) شرح رياض الصالحين، دار السلام-القاهرة، ط1، 1423 ه، ج1ص398-399
(92) مسلم: كتاب النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها، رقم (3525-3526) (نووي، ج10ص249
(93) نفسه.
(94) شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين، ص669-670
(95) مسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب: ما يباح به دم المسلم، رقم (4353) (نووي، ج11ص167
(96) إحياء علوم الدين، الغزالي، المكتبة العصرية-بيروت، ط2، 1417 ه، ج5ص153
(97) مسلم: كتاب الصلاة، باب: تحريم سبق الإمام رقم (960) (نووي، ج4ص371
(98) صحيح: رواه النسائي، كتاب الكسوف، 14- نوع آخر، رقم (1482) وصححه الألباني بالرقم السابق طبعة بيت الأفكار الدولية.
(99) البخاري: كتاب الكسوف، باب: صلاة الكسوف جماعة، رقم (1052).
(100) إحياء علوم الدين، ج5ص146
(101) المرجع السابق.
(1) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، مؤسسة أم القرى، المنصورة-مصر، ص18-19
(103) مسلم: كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته رقم (5932) (نووي، ج15ص58
(104) مسلم: كتاب الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، رقم (5928-5929) (5945) .
(105)  المرجع السابق.
(106) المرجع السابق.
(107) شرح النووي لصحيح مسلم، ج15ص53
(108) شرح العقيدة الطحاوي، تحقيق: الألباني رحمه الله، المكتب الإسلامي-بيروت، ط9، 1408 ه، ص228
(109) إحياء علوم الدين، ج5ص145
(110) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، المكتبة العصرية-بيروت، ج1ذ350

Scroll to Top