شرح حديث في تعليم جبريل للدين.

شرح حديث جبريل في تعليم الدين:
عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر.
الناشر: مطبعة سفير-الرياض-المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، 14248/2003م

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلامَ دينًا، وأتَمَّ علينا النِّعمةَ وأكملَ لنا الدِّين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الملِك الحقّ المبين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، الذي بعثه الله رحمة للعالَمين، فأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وبلَّغ البلاغَ المبين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيلَه واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد: فقد كنت منذ فترة طويلة راغبًا في كتابة شرح مستقلٍّ لحديث جبريل المشتمل على بيان الإسلام والإيمان والإحسان، وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في نهايته: (هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم دينَكم)، وقد تحقَّق ذلك بفضل الله بإخراج هذا الشرح في هذا العام “14248”، وقد جاء عن جماعة من أهل العلم بيان عظم شأن هذا الحديث، قال القاضي عياض كما في شرح النووي على صحيح مسلم “1/158”: “وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إنَّ علومَ الشريعة كلَّها راجعةٌ إليه ومتشعِّبةٌ منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألَّفنا كتابنا الذي سمَّيناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان؛ إذ لا يشذ شيءٌ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة، والله أعلم”، وقال النووي “1/160”: “واعلم أنَّ هذا الحديث يجمع أنواعًا من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام، كما حكيناه عن القاضي عياض”، وقال القرطبي كما في الفتح “1/125”: “هذا الحديث يصلح أن يُقال له أم السنَّة؛ لِمَا تضمَّنه من جُمل علم السنَّة”، وقال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: “فهو كالأمِّ للسنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة أم القرآن؛ لِمَا تضمَّنته من جمعها معاني القرآن”، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم “1/97”: “وهو حديث عظيم يشتمل على شرح الدِّين كلِّه، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخره: (هذا جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم)، بعد أن شرح درجة الإسلام ودرجة الإيمان ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كلَّه دينًا”.
وقد سَمَّيته “شرح حديث جبريل في تعليم الدِّين”، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع به، وأن يوفِّق الجميع لتحصيل العلم النافع والعمل به، إنَّه سميع مجيب.

1- روى الإمام مسلم في صحيحه (1) بإسناده عن يحيى بن يَعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يَمينه والآخر عن شماله، فظننت أنَّ صاحبي سيَكِل الكلامَ إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنَّه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلمَ، وذكر من شأنهم، وأنَّهم يزعمون أن لا قَدر، وأنَّ الأمرَ أُنُف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرْهم أنِّي بريء منهم، وأنَّهم بُرآاء منِّي، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أنَّ لأحدهم مثل أُحُد ذهبًا فأنفقه ما قَبل الله منه حتى يؤمنَ بالقدر، ثم قال: “حدَّثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه، وقال: (يا محمد أخبرني عن الإسلام) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً)، قال: (صدقتَ)، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه، قال: (فأخبرني عن الإيمان) قال: (أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: (صدقتَ)، قال: (فأخبرني عن الإحسان) قال: (أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك)، قال: (فأخبرني عن الساعة) قال: (ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل)، قال: (فأخبرني عن أمَاراتِها() قال: (أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان)، قال: ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: (يا عمر أتدري مَن السائل() قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم)”(2).
2- وقد رواه أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسةٌ من الصحابة، ذكرهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري “1/115-116″، وهم أبو ذر عند أبي داود والنسائي، وابن عمر عند أحمد والطبراني وأبي نعيم، وأنس عند البخاري في خلق أفعال العباد والبزار، وقال: “وإسناده حسن”، وجرير بن عبد الله البجلي عند أبي عوانة، وابن عباس وأبو عامر الأشعري عند أحمد، وقال: “وإسنادهما حسن”.

3- في القصَّة التي أوردها مسلم قبل سياق الحديث عن يحيى بن يَعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري فوائد:
الأولى: أنَّ بدعةَ القول بنفي القَدَر ظهرت بالبصرة في عصر الصحابة في حياة ابن عمر، وكانت وفاته سنة “738”.
الثانية: رجوع التابعين إلى الصحابة في معرفة حكم ما يقع من أمور مشكلة، سواء كان ذلك في العقائد أو غيرها، وهذا هو الواجب على كلِّ مسلم أن يرجع في أمور دينه إلى أهل العلم؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون).
الثالثة: أنَّه يُستحبُّ للحُجَّاج والمعتمرين أن يستغلُّوا مناسبة ذهابهم إلى الحرمين للتفقُّه في الدِّين والرجوع إلى أهل العلم في معرفة ما يُشكل عليهم من أحكام دينهم، كما حصل من يحيى بن يَعمر وحُميد بن عبد الرحمن الحميري في هذه القصة، ومن النتائج الطيِّبة التي يظفر بها مَن وفَّقه الله تفقهُه في الدِّين والسلامة من الوقوع في الشرِّ، كما في صحيح مسلم “191” عن يزيد الفقير قال: “كنتُ قد شَغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عِصابةٍ ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثمَّ نخرجَ على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القومَ جالسٌ إلى ساريةٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، قال: فقلتُ له: يا صاحبَ رسول الله! ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، و(كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)، فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ: نعم! قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام، يعني الذي يبعثه فيه؟ قلتُ: نعم! قال: فإنَّه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج، قال: ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنَّه قد زعم أنَّ قومًا يَخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهرًا من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنَّهم القراطيس، فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم(! فرجعنا، فلا  والله! ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد، أو كما قال أبو نعيم”. وأبو نعيم هو الفضل بن دكين هو أحد رجال الإسناد؛ فهذه العصابة جاؤوا إلى الحجِّ وقد ابتُلوا بفهم خاطئ، وهو أنَّ أصحابَ الكبائر لا يخرجون من النار، وحملوا الآيات التي وردت في الكفَّار على المسلمين أيضًا، وهذا من عقيدة الخوارج، وقد أرادت هذه العصابة أن تظهر على الناس بهذه العقيدة الباطلة بعد الحج، لكن في هذه الرحلة الميمونة وفَّقهم الله للالتقاء بجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، فأوضح لهم فساد فهمهم، فعدلوا عمَّا كانوا عزموا عليه، ولم يخرج منهم بهذا الباطل إلاَّ واحد منهم.
الرابعة: في هذه القصة أنواع من الأدب، منها اكتناف أحد هاذين الرَّجلين عبد الله بن عمر، فصار واحدٌ منهما عن يمينه، وواحد عن يساره، وفي ذلك قُرب كلِّ واحد منهما منه للتمكُّن من وعي ما يقوله رضي الله عنه، ومنها مخاطبته بالكنية، وهو من حسن الأدب في الخطاب، ومنها مراعاة حقِّ الصاحب وعدم سبقه إلى الحديث إلا إذا فهم منه ما يُشعر رضاه بذلك، ولعلَّ يحيى بن يَعمر رأى أنَّ صاحبَه سكت ولم يبدأ بالكلام مع عبد الله بن عمر، ففهم منه أنَّه ترك الحديث له.
الخامسة: أنَّ الاستفتاءَ وأخذَ العلم عن العالم كما يكون في حال جلوسه، يكون أيضًا في حال مشيه؛ لأنَّ هاذين التابعيين سألا ابنَ عمر رضي الله عنهما وأجابهما على ما سألا وهو يمشي، وفي صحيح البخاري في كتاب العلم: “باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها”، و”باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار”.
السادسة: في جواب ابن عمر رضي الله عنهما لهاذين السائلَين بيان خطورة بدعة القول بنفي القدر السابق، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم “1/103-104”: “والإيمان بالقدر على درجتين: إحداهما: الإيمانُ بأنَّ الله تعالى سبق في علمه ما يعمله العباد من خير وشرٍّ وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومَن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن أهل النار، وأعدَّ لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنَّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنَّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه، والدرجة الثانية: أنَّ الله تعالى خلق أفعال عباده كلَّها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان، وشاءها منهم، فهذه الدرجة يثبتها أهل السنَّة والجماعة، ويُنكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثيرٌ من القدرية، ونفاها غلاتُهم، كمعبد الجهني، الذي سُئل ابنُ عمر عن مقالته، وكعمرو بن عُبيد وغيره، وقد قال كثيرٌ من أئمَّة السلف: “ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خُصموا، وإن جحدوه فقد كفروا، يريدون أنَّ مَن أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأنَّ الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقيٍّ وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذَّب بالقرآن، فيكفر بذلك، وإن أقرُّوا بذلك وأنكروا أنَّ الله خلق أفعال عباده وشاءها وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خُصموا؛ لأنَّ ما أقرُّوا به حجَّة عليهم فيما أنكروه، وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين العلماء، وأمَّا مَن أنكر العلم القديم، فنصَّ الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما من أئمَّة الإسلام”.
السابعة: أنَّ للشيطان في إضلال الناس وإغوائهم طريقين، فمَن كان منهم عنده تقصير وإعراض عن الطاعة حسَّن له الشهوات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النار بالشهوات) “رواه البخاري (6487)، ومسلم (2822)، ويُقال لهذا مرض الشهوة، ومنه قوله تعالى: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)، وأمَّا من كان من أهل الطاعة والعبادة، أتاه الشيطان عن طريق الغلوِّ فيها وإلقاء الشبهات عليه، قال الله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وفي صحيح البخاري (4547)، ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: (إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم)، ويُقال لهذا مرض الشبهة، ومنه قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ)، وهؤلاء الذين سُئل عنهم ابن عمر وصفهم يحيى بن يعمر بأنَّهم أهل عبادة، فقال: (إنَّه ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم)، وهؤلاء وأمثالهم من أهل البدع يأتيهم الشيطان لإغوائهم وإضلالهم عن طريق الشبهات.
الثامنة: جَمْعُ المفتي بين ذكر الحكم ودليله؛ فإنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ذكر رأيَه في هؤلاء وبراءته منهم، ثم ساق مستدِلاًّ على ذلك حديث جبريل المشتمل على أنَّ من أصول الإيمان الإيمان بالقدر.
التاسعة: من طريقة الإمام مسلم رحمه الله المحافظة على الألفاظ في الأسانيد والمتون، وذكر الحديث كما هو دون تقطيع أو اختصار، ولهذا ساق حديث جبريل هنا بتمامه ولم يختصره فيقتصر على ذكر الإيمان بالقدر، قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم في تهذيب التهذيب: “حصل لمسلم في كتابه حظٌّ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إنَّ بعضَ الناس كان يفضِّله على صحيح محمد بن إسماعيل؛ وذلك لِمَا اختصَّ من جمع الطرق وجَودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريِّين فلم يبلغوا شأوه، وحفظتُ منهم أكثرَ من عشرين إمامًا مِمَّن صنَّف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهَّاب!”.

4- قوله: “بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طَلَعَ علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسنَد ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفَّيه على فخذيه”، ثم سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وإماراتها، وقال بعد ذلك: (فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينَكم) فيه فوائد:
الأولى: جاء في صحيح البخاري “50” ومسلم “9” عن أبي هريرة قال: (كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس)، وفي سنن أبي داود “4698” بإسناد صحيح عن أبي ذر وأبي هريرة قالا: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيَّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعلَ له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين، فجلس عليه، وكنَّا نجلس بجنبتيه”، وفي هذا دليلٌ على أنَّه ينبغي للمعلِّم أن يكون على مكان مرتفع لكي يُعرف وليراه الحاضرون جميعًا، لا سيما إذا كان الجمعُ كثيرًا، فيتمكَّن الجميعُ من الاستفادة منه.
الثانية: أنَّ الملائكةَ تأتي إلى البشر على شكل البشر، ومثل ذلك ما جاء في القرآن من مجيء جبريل إلى مريم في صورة بشر، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوط في صورة بشر، وهم يتحوَّلون بقدرة الله عزَّ وجلَّ عن الهيئة التي خُلقوا عليها إلى هيئة البشر، وقد قال الله عزَّ وجلَّ في خلق الملائكة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ)، وفي صحيح البخاري “4857”، ومسلم “280” أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وله ستمائة جناح، ومثل الملائكة في المجيء على هيئة البشر: الجنُّ، كما ثبت في صحيح البخاري “2311” عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصَّة الذي يأتي إليه ويحثو من الطعام، وكما تأتي الجنُّ على هيئة البشر؛ فإنَّها تأتي على هيئة الحيَّات، كما في صحيح مسلم “2236”، والملائكةُ والجنُّ وهم على هيئتهم يَرون البشرَ من حيث لا يرونهم، وقد قال الله عزَّ وجلَّ عن الجنِّ: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ).
الثالثة: ليس في مجيء جبريل على هيئة البشر دليلٌ لِمَا حدث في هذا الزمان من التمثيل الذي هو نوع من الكذب؛ لأنَّ جبريل تحوَّل بقدرة الله وإذنه عزَّ وجلَّ عن هيئته التي خُلق عليها وله ستمائة جناح إلى هيئة بشر.
الرابعة: في مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلوسه بين يديه بيان شيء من آداب طلبة العلم عند المعلِّم، وأنَّ السائلَ لا يقتصر سؤاله على أمور يجهل حكمها، بل ينبغي له أن يسأل غيرَه وهو عالِم بالحكم ليسمع الحاضرون الجواب، ولهذا نسب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث التعليم، حيث قال: (فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمكم دينكم)، والتعليم حاصلٌ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه هو المباشر له، ومضافٌ إلى جبريل؛ لكونه المتسبِّب فيه، وفي صحيح مسلم “10” عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوني، فهابوه أن يسألوه)، فجاء رجل فسأله، وفي آخره قال صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أراد أن تعلَّموا إذ لَم تسألوا).
الخامسة: لم يَرِد في الصحيحين سلام جبريل عند مجيئه إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة وأبي ذر عند أبي داود الذي أشرت إليه قريبًا: (فأقبل رجل فذكر هيئته حتى سلم من طرف السِّماط، فقال: السلام عليك يا محمد، قال: فردَّ عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم).
السادسة: قال الحافظ ابن حجر في الفتح “1/116-117”: “فإن قيل: كيف عرف عمر أنَّه لم يعرفه أحدٌ منهم؟ أجيب بأنَّه يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنِّه، أو إلى صريح قول الحاضرين، قلت: وهذا الثاني أولى، فقد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث، فإنَّ فيها: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرف هذا”، وهذه الرواية في المسند للإمام أحمد “184”.
السابعة: ذكر النووي في شرح مسلم “1/157” أنَّ الضمير في “فخذيه” يرجع إلى جبريل، وقال غيرُه: إنَّه يرجع إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ في الفتح “1/116”: “وفي رواية لسليمان التيمي: ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطَّى حتى برَك بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدُنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكذا في حديث ابن عباس وأبي عامر الأشعري: “ثم وضع يده على ركبتي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم” فأفادت هذه الرواية على أنَّ الضمير في قوله: (على فخذيه) يعود على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبه جزم البغوي وإسماعيل التيمي لهذه الرواية، ورجَّحه الطيبي بحثًا؛ لأنَّه نسق الكلام، خلافًا لِمَا جزم به النووي، ووافقه التوربشتي؛ لأنَّه حمله على أنَّه جلس كهيئة المتعلِّم بين يدي من يتعلَّم منه، وهذا وإن كان ظاهرًا من السياق لكن وضعه يديه على فخذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صنيع منبِّه للإصغاء إليه، وفيه إشارة لِمَا ينبغي للمسؤول من التواضع والصَّفح عمَّا يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنَّه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره ليقوى الظنُّ بأنَّه من جُفاة الأعراب، ولهذا تخطَّى الناسَ حتى انتهى إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم”، وفي سنن النسائي “4991” أنَّه وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5-  قوله: (وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلامُ أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً)، قال: (صدقت)، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه”، فيه فوائد:
الأولى: أجاب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جبريل عندما سأله عن الإسلام بالأمور الظاهرة، وعندما سأله عن الإيمان، أجابه بالأمور الباطنة، ولفظَا الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمع بينها في الذِّكر فُرِّق بينها في المعنى، وقد اجتمعا هنا، ففُسِّر الإسلام بالأمور الظاهرة، وهي مناسبة لمعنى الإسلام، وهو الاستسلام والانقيادُ لله تعالى، وفسِّر الإيمان بالأمور الباطنة، وهي المناسبة لمعناه، وهو التصديق والإقرار، وإذا أُفرد أحدُهما عن الآخر شمل المعنيين جميعًا: الأمور الظاهرة والباطنة، ومن مجيء الإسلام مفردًا قول الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ومن مجيء الإيمان مفردًا قول الله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ونظير ذلك كلمتَا الفقير والمسكين، والبر والتقوى وغير ذلك.
الثانية: أوَّل الأمور التي فُسِّر بها الإسلام شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاتان الشهادتان متلازمتان، وهما لازمتان لكلِّ إنسيٍّ وجنيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فمَن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كان من أصحاب النار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار) “رواه مسلم (240)”، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله معناها لا معبود حقٌّ إلاَّ الله، وكلمة الإخلاص تشتمل على ركنين: نفي عام في أولها، وإثبات خاص في آخرها، ففي أوَّلها نفي العبادة عن كلِّ من سوى الله، وفي آخرها إثبات العبادة لله وحده لا شريك له، وخبر “لا” النافية للجنس تقديره “حق”، ولا يصلح أن يُقدَّر “موجود”؛ لأنَّ الآلهة الباطلة موجودةٌ وكثيرة، وإنَّما المنفيُّ الألوهية الحقَّة، فإنَّها منتفيَةٌ عن كلِّ من سوى الله، وثابتة لله وحده، ومعنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، أن يُحبَّ فوق محبَّة كلِّ محبوب من الخلق، وأن يُطاع في كلِّ ما يأمر به، ويُنتهى عن كلِّ ما نهى عنه، وأن تُصدَّق أخباره كلُّها، سواء كانت ماضيةً أو مستقبلةً أو موجودةً، وهي غير مشاهدة ولا معاينة، وأن يُعبد الله طبقًا لِمَا جاء به من الحقِّ والهدى، وإخلاصُ العمل لله واتّباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هما مقتضى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وكلُّ عمل يُتقرَّب به إلى الله لا بدَّ أن يكون خالصًا لله ومطابقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فُقد الإخلاصُ لم يُقبل العمل؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)، وقوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) “رواه مسلم (2985)”، وإذا فُقد الاتِّباع رُدَّ العمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) “رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718)”، وفي لفظ لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وهذه الجملة أعمُّ من الأولى؛ لأنَّها تشمل مَن فعل البدعة وهو مُحدثٌ لها، ومَن فعلَها متابعًا لغيره فيها، ولا يُقال: إنَّ العمل إذا كان خالصًا لله، ولَم يكن مبنيًّا على سنَّة، وكان قصدُ صاحبه حسنًا أنَّه محمود ونافعٌ لصاحبه، ومِمَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال للصحابيِّ الذي ذبح أضحيتَه قبل صلاة العيد: (شاتُك شاة لحم)، فلَم يعتبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحية؛ لأنَّها ذبحت قبل ابتداء وقت الذبح الذي يبدأ بعد صلاة العيد، “والحديث أخرجه البخاري (5556) ومسلم (1961)”، وقد قال الحافظ في شرحه في الفتح “10/17”: “قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العمل وإن وافق نيَّة حسنة لَم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع”، وفي سنن الدارمي “1/68-69”: أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقف على أناس في المسجد متحلِّقين وبأيديهم حصى، يقول أحدُهم: كبِّروا مائة، فيكبِّرون مائة، فيقول: هلِّلوا مائة، فيُهلِّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيُسبِّحون مائة، فقال: “ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعُدُّوا سيِّئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، وَيْحكم يا أمَّة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لَم تَبْلَ، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده! إنَّكم لعلى مِلَّة هي أهدى من ملَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة(! قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلاَّ الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يُصيبه”، وهذا الأثر أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (2005).
الثالثة: أهمُّ أركان الإسلام الخمسة بعد الشهادتين الصلاة، وقد وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنَّها عمود الإسلام، كما في حديث وصيَّته صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وهو الحديث التاسع والعشرون من الأربعين النووية، وأخبر أنَّها آخر ما يُفقد من الدِّين، وأوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة، انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1739)، (1358)، (1748)، وأنَّ بها التمييز بين المسلم والكافر، رواه مسلم (134)، ومِمَّا يدلُّ على أهميَّة شأن الصلاة أيضًا أنَّ الله فرض الصلوات الخمس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء، كما جاء ذلك في أحاديث الإسراء، وأنَّ أهلَ سَقَر يُجيبون عن أسباب دخولهم سقر بقولهم: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) الآيات، وأنَّ الصلاةَ تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، وهي من آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أمِّ سلمة: “أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه”، وعن أنس بن مالك قال: “كانت عامة وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)”، وعن علي بن أبي طالب قال: “كان آخر كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: (الصلاة وما ملكت أيمانكم)”، وهي أحاديث صحيحة، رواها ابن ماجه (1625)، (2697)، (2698)، وغيرُه، وأيضًا فإنَّ الله لَمَّا ذكر صفات المؤمنين في سورتي المؤمنون والمعارج بدأها بالصلاة وختمها بالصلاة، فقال في سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، وقال في آخرها: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، وقال في سورة المعارج: (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)، وقال في آخرها: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)، وإقامة الصلاة تكون على حالتين: إحداهما واجبة، وهو أداؤها على أقلِّ ما يحصل به فعل الواجب وتبرأ به الذِّمَّة، ومستحبَّة، وهو تكميلها وتتميمها بالإتيان بكلِّ ما هو مستحبٌّ فيها، وهذه الصلوات الخمس لازمةٌ لكلِّ بالغ عاقل من الرِّجال والنساء، ما دامت الروح في الجسد، ويجب على الرِّجال أداؤها جماعة في المساجد، ويدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطب فيُحطب، ثمَّ آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدُهم أنَّه يجد عرقًا سمينً أو مرماتَينا حسنتين لشهد العشاء) “رواه البخاري (644)، ومسلم (651)” عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أثقلَ صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممتُ أن آمرَ بالصلاة فتُقام، ثمَّ آمرَ رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاةَ فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) “رواه البخاري (657)، ومسلم (651)، عن أبي هريرة”، وروى مسلم في صحيحه (654) عن ابن مسعود قال: (مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليُحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادَى بهنَّ، فإنَّ الله شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى، وإنَّهنَّ من سنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتُم سنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتم سنَّةَ نبيِّكم لضللتُم، وما من رجل يتطهَّر فيُحسن الطهور، ثم يعمدُ إلى مسجد من هذه المساجد إلاَّ كتب الله له بكلِّ خطوة يخطوها حسنة، ويرفعها بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيِّئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرَّجل يُؤتَى به يُهادى بين الرَّجلين حتى يُقام في الصفِّ)، وروى أيضًا في صحيحه (653) عن أبي هريرة قال: “أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ أعمى، فقال: يا رسول الله إنَّه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرخِّصَ له فيُصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلَمَّا ولَّى دعاه، فقال: (هل تسمع النِّداء بالصلاة) فقال: نعم! قال: (فأجِب)”، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: “كنَّا إذا فقدنا الرَّجلَ في صلاة العشاء الآخرة والصبح أسأنا به الظنَّ” “رواه الحاكم في المستدرك (1/211)”، وقال: “صحيح على شرطهما” ووافقه الذهبي، ويدلُّ لوجوب صلاة الجماعة ورود نصوص الكتاب والسنَّة بأدائها حال الخوف، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ الآية)، وورد في السنَّة أحاديث متعدِّدة تدلُّ على أداء صلاة الخوف على أوجه مختلفة.
الرابعة: الزكاة هي قرينة الصلاة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)، وقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، وهي عبادةٌ مالية نفعها متعدٍّ، وقد أوجبها الله في أموال الأغنياء على وجه ينفع الفقير ولا يضرُّ الغنيَّ؛ لأنَّها شيء يسير من مال كثير.
الخامسة: صومُ رمضان عبادة بدنية، وهي سرٌّ بين العبد وبين ربِّه، لا يطَّلع عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ من الناس مَن يكون في شهر رمضان مفطرًا وغيرُه يظنُّ أنَّه صائم، وقد يكون الإنسانُ صائمًا في نفل وغيرُه يظنُّ أنَّه مُفطر، ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنَّ الإنسانَ يُجازَى على عمله، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عزَّ وجلَّ: (إلاَّ الصوم فإنَّه لي، وأنا أجزي به) “رواه البخاري (1894)، ومسلم (164)”، أي: بغير حساب، والأعمال كلُّها لله عزَّ وجلَّ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (قلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)، وإنَّما خُصَّ الصوم في هذا الحديث بأنَّه لله لِمَا فيه من خفاء هذه العبادة، وأنَّه لا يطَّلع عليها إلاَّ الله.
السادسة: حجُّ بيت الله الحرام عبادة ماليَّة بدنية، وقد أوجبها الله في العمر مرَّة واحدة، وبيَّن النَّبيُّ فضلَها بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن حجَّ هذا البيتَ فلَم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه) “رواه البخاري (1820)، ومسلم (1350)”، وقوله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة) “رواه مسلم (1349)”، والاستطاعة في الحجِّ تكون بدنية ومالية، ويُحجُّ عن الميت، وأمَّا الحي فلا يُحجُّ عنه إلاَّ في حالتَين: إحداهما: أن يكون هرمًا كبيرًا لا يستطيع الركوب والسفر، والثانية: أن يكو ن مريضًا مرضًا لا يُرجى برؤُه، ومن الاستطاعة في حقِّ المرأة وجود المحرم إذا كان الحجُّ من غير مكة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأة إلاَّ ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلاَّ مع ذي محرم)، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إنَّ امرأتي خرجت حاجَّة، وإنِّي اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، قال: (انطلق فحُجَّ مع امرأتك) “رواه البخاري (3006)، ومسلم (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما”.
السابعة: هذه الأركان الخمسة وردت في الحديث مرتَّبة حسب أهميَّتها، وبُدئ فيها بالشهادتين اللَّتين هما أساس لكلِّ عمل يُتقرَّب به إلى الله عزَّ وجلَّ، ثم بالصلاة التي تتكرَّر في اليوم والليلة خمس مرَّات، فهي صلة وثيقة بين العبد وبين ربِّه، ثم الزكاة التي تجب في المال إذا مضى عليه حَولٌ؛ لأنَّ نفعَها متعدٍّ، ثم الصيام الذي يجب شهرًا في السنة، وهو عبادة بدنيَّة نفعها غير متعدٍّ، ثم الحج الذي لا يجب في العمر إلاَّ مرَّة واحدة.
الثامنة: قوله: (قال: صدقت)، قال: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه” وجه التعجُّب أنَّ الغالبَ على السائل كونه غير عالِم بالجواب، فهو يسأل ليصل إلى الجواب، ومثله لا يقول للمسؤول إذا أجابه: صدقتَ؛ لأنَّ السائلَ إذا صدَّق المسؤول دلَّ على أنَّ عنده جوابًا من قبل، ولهذا تعجَّب الصحابةُ من هذا التصديق من هذا السائل الغريب.

6-  قوله: (قال: فأخبرني عن الإيمان) قال: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، قال: (صدقتَ)، قال: (فأخبرني عن الإحسان) قال: (أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لَم تكن تراه فإنَّه يراك)، فيه فوائد:
الأولى: هذا الجواب مشتملٌ على أركان الإيمان الستة، وأوَّل هذه الأركان الإيمان بالله، وهو أساس للإيمان بكلِّ ما يجب الإيمان به، ولهذا أُضيف إليه الملائكة والكتب والرسل، ومَن لَم يؤمن بالله لا يؤمن ببقيَّة الأركان، والإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته، وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها؛ فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكًا مقرَّبًا أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما، وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُو السَّمِيعُ الْبَصِير)، فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، والتنزيه في قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات، وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن، وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة؛ فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى فيها، وهي: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مشتملةٌ على هذه الأنواع؛ فإنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو كون الله عزَّ وجلَّ ربَّ العالمين، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلاَّ خالقٌ ومخلوق، والله الخالقُ، وكلُّ مَن سواه مخلوق، ومن أسماء الله الرب، وقبله لفظ الجلالة في هذه الآية، وقوله: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، والرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله يدُلاَّن على صفة من صفات الله، وهي الرَّحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسم جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته، و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فيه إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة، وإنَّما خصَّ يوم الدِّين بأنَّ اللهَ مالكُه؛ لأنَّ ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميعُ لربِّ العالَمين، بخلاف الدنيا، فإنَّه وُجد فيها من تَجبَّر، وقال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) وقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه إثباتُ توحيد الألوهية، وتقديمُ المفعول وهو إِيَّاكَ يُفيد الحصرَ، والمعنى: نخصُّكَ بالعبادة والاستعانة، ولا نشرك معك أحدًا، وقوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فيه إثبات توحيد الألوهية؛ فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاءُ هو العبادة)، فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديَه الصراطَ المستقيمَ الذي سلكه النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه، وأمَّا سورة الناس، فقوله: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله فيه توحيد الألوهيَّة، و(بِرَبِّ النَّاسِ) فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول الفاتحة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين)، وقوله: (مَلِكِ النَّاسِ) فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات، و(إِلَهِ النَّاسِ فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات، والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكًا فيها، لا يكون منكرًا أنَّ اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيرًا في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَرًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ففي كلِّ آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبيَّة للإلزام بتوحيد الألوهيَّة، فيقول في كلِّ آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبيَّة (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)، والمعنى أنَّ مَن تفرَّد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده، يجبُ أن يُخصَّ بالعبادة وحده؛ لأنَّ مَن اختصَّ بالخلْق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يَجب أن يُخصَّ بالعبادة وحده، وكيف يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عَدَمًا، وقد أوجدَها الله، كيف يُعقل أن يكون لها نصيبٌ من العبادة وهي مخلوقةٌ لله، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ).
الثانية: الإيمان بالملائكة هو الإيمانُ بأنَّهم خَلقٌ من خلق الله، خُلقوا من نور، كما في صحيح مسلم (2996) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خُلقت الملائكةُ من نور، وخُلق الجانُّ من مارج من نار، وخُلق آدم مِمَّا وُصف لكم)، وهم ذوو أجنحة كما في الآية الأولى من سورة فاطر، وجبريل له ستمائة جناح، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدَّم قريبًا، وهم خلقٌ كثيرٌ لا يعلم عددَهم إلاَّ الله عزَّ وجلَّ، ويدلُّ لذلك أنَّ البيتَ المعمور  وهو في السماء السابعة  يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملَك لا يعودون إليه، “رواه البخاري (3207)، ومسلم (259)”، وروى مسلم في صحيحه (2842) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُؤتَى بجهنَّم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف ملَك يجرُّونها)، والملائكةُ منهم الموَكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالجنَّة، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقد سُمِّي منهم في الكتاب والسنة جبريل وميكائيل وإسرافيل ومالك ومنكر ونكير، والواجب الإيمان بمَن سُمِّي منهم ومَن لَم يسمَّ، والواجب أيضًا الإيمان والتصديق بكلِّ ما جاء في الكتاب العزيز وصحَّت به السنَّة من أخبار عن الملائكة.
الثالثة: الإيمانُ بالكتب التصديق والإقرار بكلِّ كتاب أنزله الله على رسول من رسله، واعتقاد أنَّها حقٌّ، وأنَّها منَزَّلة غير مخلوقة، وأنَّها مشتملة على ما فيه سعادة من أُنزلت إليهم، وأنَّ مَن أخذ بها سلم وظفر، ومن أعرض عنها خاب وخسر، ومن هذه الكتب ما سُمِّي في القرآن، ومنها ما لم يُسمَّ، والذي سُمِّي منها في القرآن التوراة والإنجيل والزبور وصُحف إبراهيم وموسى، وقد جاء ذكر صحف إبراهيم وموسى في موضعين من القرآن، في سورتَي النجم والأعلى، وزبور داود جاء في القرآن في موضعين، في النساء والإسراء، قال الله عزَّ وجلَّ فيهما: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)، وأمَّا التوراة والإنجيل فقد جاء ذكرهما في كثير من سُوَر القرآن، وأكثرهما ذكرًا التوراة، فلَم يُذكر في القرآن رسول مثل ما ذُكر موسى، ولم يُذكر فيه كتاب مثل ما ذُكر كتاب موسى، ويأتي ذكره بلفظ “التوراة”، و”الكتاب”، و”الفرقان”، و”الضياء”، و”الذِّكر”، ومِمَّا يمتاز به القرآن على غيره من الكتب السابقة أنَّه يجب الإيمانُ به تفصيلاً، فتُصدَّق أخبارُه، وتُمتثل أوامرُه، وتجتنب نواهيه، ويُتعبَّد الله طبقًا لِما جاء فيه وفي سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه المعجزة الخالدة التي تُحدِّي أهل الفصاحة والبلاغة على أن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا ولن يستطيعوا، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، ويمتاز أيضًا بتكفُّل الله بحفظه وسلامته من التحريف، قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ويمتاز بنزوله منجَّمًا مفرًَّ،ا قال الله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)، وكونه مهيمنًا على الكتب السابقة؛ قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، فهذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآنَ مُهيمنٌ على الكتب السابقة، وسنَّة رسول الله شارحةٌ للكتاب وموضِّحة له، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، ولا بدَّ من العمل بما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ومن كفر بالسُّنَّة فقد كفر بالقرآن، والله عزَّ وجلَّ فرض الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج، وبيانُها وبيان غيرها حصل بالسُّنَّة، فالله قد أمر بإقام الصلاة، وبيَّنت السُّنَّة أوقاتَ تلك الصلوات وعدد ركعاتها، وبيَّنت كيفياتها، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلُّوا كما رأيتُمونِي أُصلِّي) “رواه البخاري (631)”، وأمر بإيتاء الزكاة، وبيَّنت السُّنَّة شروطَ وجوبها، وأنصباءها ومقاديرها، وأمر بالصيام، وبيَّنت السُّنَّة أحكامَه ومُفطِّراته، وأمر بالحجِّ، وبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم كيفياته، وقال: (لتأخذوا مناسككم، فإنِّي لا أدري لعلِّي لا أحجُّ بعد حَجَّتِي هذه) “رواه مسلم (1297)”، والقرآن وما سُمِّي فيه من الكتب وما لَم يُسمَّ كلُّ ذلك من كلام الله، فاللهُ متَّصفٌ بصفة الكلام أزَلاً وأبدًا، وهو متكلِّمٌ بلا ابتداء، ويتكلَّم بلا انتهاء؛ لأنَّه سبحانه وتعالَى لا بداية له ولا نهاية له، فلا بداية لكلامه ولا نهاية له، وصفةُ الكلام صفةٌ ذاتيَّة فعلية، فهي ذاتيَّةٌ باعتبار أنَّه لا بداية للاتِّصاف بها، وفعلية لكونها تتعلَّق بالمشيئة والإرادة، فكلامُه متعلِّقٌ بمشيئته، يتكلَّم إذا شاء، كيف شاء، وهو قديمُ النوع، حادثُ الآحاد، وقد كلَّم موسى في زمانه، وكلَّم نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ويُكلِّم أهلَ الجنَّة إذا دخلوا الجنَّة، وهذه من أمثلة آحاد الكلام التي حصلت وتحصل في الأزمان التي شاء الله عزَّ وجلَّ حصولَها فيها، والله تعالى يتكلَّم بحرف وصوت، ليس كلامُه مخلوقًا ولا معنى قائمًا بالذات، قال الله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، ففي هذه الآية إثبات صفة الكلام لله عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلامَه سَمعَه موسى منه، وقوله: (تَكْلِيمًا) تأكيدٌ لحصول الكلام، وأنَّه منه سبحانه وتعالى، وكلام الله عزَّ وجلَّ لا بداية له ولا نهاية له، فلا حصرَ له، بخلاف كلام المخلوق، فإنَّ له بدايةً وله نهاية، فيكون كلامُه محصورًا، قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدًَا)، وقال: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ففي هاتين الآيتين إثباتُ صفة الكلام لله عزَّ وجلَّ، وأنَّ كلامَه غيرُ محصور؛ لأنَّ البحورَ الزاخرةَ ولو ضوعِفَت أضعافًا مضاعفة، وكانت مدادًا يُكتبُ به كلام الله، وكان كلُّ ما في الأرض من شجر أقلامًا يُكتبُ بها، فلا بدَّ أن تنفدَ البحورُ والأقلامُ؛ لأنَّها مخلوقةٌ محصورةٌ، ولا ينفدُ كلام الله الذي هو غير مخلوق ولا محصور، والقرآن من كلام الله، والتوراة والإنجيل من كلام الله، وكلُّ كتاب أنزله الله فهو من كلامه، وكلامُه غيرُ مخلوق، فلا يَحصل له الفناءُ الذي يحصل للمخلوقات، وهو صفة الخالق الذي لا نهاية له فلا ينفدُ كلامُه، والمخلوقون يَبيدون فينفدُ كلامُهم.
الرابعة: الإيمانُ بالرسُل التصديقُ والإقرار بأنَّ الله اصطفى من البشر رُسُلاً وأنبياء يهدون الناسَ إلى الحقِّ، ويُخرجونهم من الظلمات إلى النور، قال الله عزَّ وجلَّ: (الَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)، والجنُّ ليس فيهم رسُل، بل فيهم النُّذُر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، فلم يذكروا رسلاً منهم، ولا كتبًا أنزلت عليهم، وإنَّما ذكروا الكتابين المنزلين على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأتِ ذكر الإنجيل مع أنَّه منَزَّلٌ من بعد موسى؛ وذلك أنَّ كثيرًا من الأحكام التي في الإنجيل قد جاءت في التوراة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: “ولم يذكروا عيسى؛ لأنَّ عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمِّم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)”، والرسلُ هم المكلَّفون بإبلاغ شرائع أنزلت عليهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ)، والكتاب اسم جنس يُراد به الكتب، والأنبياء هم الذين أوحي إليهم بأن يُبلِّغوا شريعة سابقة، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) الآية، وقد قام الرسل والأنبياء بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، وقال: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)، قال الزهري: “من الله عزَّ وجلَّ الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم” “أورده البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد، باب قول الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (13/503) مع الفتح”، والرسلُ منهم من قُصَّ في القرآن، ومنهم من لم يُقصص، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ)، وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ)، والذين قُصوا في القرآن خمسة وعشرون، منهم ثمانية عشر جاء ذكرهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)، والسبعة الباقون: آدم، وإدريس، وهود، وصالح، وشعيب، وذو الكفل، ومحمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، ورُسُلُ الله وأنبياؤُه من الرِّجال دون النِّساء، ومن الحاضرة دون البادية، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: “الذي عليه أهل السنَّة والجماعة  وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم  أنَّه ليس في النساء نبيَّة، وإنَّما فيهنَّ صدِّيقات، كما قال تعالى مخبرًا عن أشرفهنَّ مريم بنت عمران، حيث قال تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدِّيقية، فلو كانت نبيَّةً لذَكَر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صدِّيقة بنصِّ القرآن”، وقال: “وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)، المراد بالقرى المدن، لا أنَّهم من أهل البوادي، الذين هم من أجفى الناس طبعًا وأخلاقًا، وهذا هو المعهود المعروف أنَّ أهل المدن أرقُّ طبعًا وألطفُ من أهل بواديهم، وأهل الريف والسواد أقربُ حالاً من الذين يسكنون في البوادي، ولهذا قال تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا، الآية”، وقال قتادة في قوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى): “لأنَّهم أعلم وأحلم من أهل العمود”، وهذا الذي جاء في هذه الآية من أنَّ الرسلَ من أهل القرى لا يُنافيه قول الله تعالى: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ)؛ لأنَّه محمولٌ على أنَّ يعقوب نُبِّئ في المدن، وخرج بعد ذلك إلى البادية، أو أنَّه نزل في مكان يُقال له: بدا، أو أنَّ البدو الذي جاء منه يعقوب مستندٌ للحاضرة، فأُعطي حكمه، ذكر هذه الوجوه شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه: “دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب”، عند هذه الآية من سورة يوسف، وأمَّا الفرق بين النَّبيِّ والرسول فقد اشتهر أنَّ النَّبيَّ هو مَن أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمَر بتبليغه، والرسولَ هو مَن أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، لكن هذا التفريق قد جاء في بعض الأدلَّة ما يدلُّ على عدم صحَّته، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، وذلك يدلُّ على أنَّ النَّبيَّ مرسَلٌ مأمورٌ بالتبليغ، وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) الآية، فهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أنبياءَ بنِي إسرائيل من بعد موسى يَحكمون بالتوراة ويدعون إليها، وعلى هذا فيُمكن أن يُقال في الفرق بين الرسول والنَّبيِّ: إنَّ الرَّسولَ مَن أُوحي إليه بشرع وأُنزل عليه كتاب، والنَّبيَّ هو الذي أُوحي إليه بأن يُبلِّغ رسالةً سابقة، وهذا هو المتَّفق مع الأدلَّة، لكن يبقى عليه إشكال، وهو أنَّ من المرسَلين مَن وُصف بأنَّه نبِيٌّ رسول، كما قال الله عزَّ وجلَّ في نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)، وقال في موسى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)، وقال في إسماعيل: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا)، ونبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم نَزَل عليه الوحيُ أوَّلاً ولم يُؤمَر بالتبليغ، ثم أُمر بعد ذلك بالتبليغ بقوله: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ)، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الأصول الثلاثة: “نُبِّئ ب(اقْرَأْ)، وأُرسل ب(الْمُدَّثِّرُ)”، وعلى هذا فيُقال: النَّبيُّ مَن أُوحي إليه ولم يُؤمَر بالتبليغ في وقت ما، أو أُمر بأن يبلِّغ شريعة سابقة، أو يُقال: النَّبيُّ يُطلق عليه الرسول، والرسول يُطلق عليه النَّبي، وأولو العزم من الرسل خمسة، قال الله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وهم: نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإبراهيم وموسى ونوح وعيسى، وقد ذكرهم الله في آيتين من القرآن، في قوله في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)، وفي قوله في سورة الشورى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)، وأعظمُ نعمة أنعم الله تعالى بها على الجنِّ والإنس في آخر الزمان أن بعث فيهم رسوله الكريم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فدلَّهم على كلِّ خير، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، قال الله عزَّ وجلَّ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، وقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا) الآيات، وأمَّةُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أمَّةُ دعوة وأمَّةُ إجابة، فأمَّةُ الدعوة كلُّ إنسيٍّ وجنِيٍّ من حين بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأمَّة الإجابة هم الذين وفَّقهم الله للدخول في دينه الحنيف، فشريعتُه صلى الله عليه وسلم لازمةٌ للجنِّ والإنس، والدعوة إليها مُوجَّهةٌ لهم جميعًا، ليست لأحد دون أحد، بل هي للجميع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمَّة: يهودي ولا نصراني، ثمَّ يموت ولم يُؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلاَّ كان من أصحاب النار) “رواه مسلم (240)”؛ فاليهود والنصارى بعد بعثة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، لا ينفعُهم زعمُهم أنَّهم أتباعُ موسى وعيسى، بل يتعيَّنُ عليهم الإيمانُ بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نسخت شريعتُه الشرائعَ قبلها، وخُتم به النبيُّون، قال الله عزَّ وجلَّ: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، ولأنَّ مَن كذَّب برسول واحد، فقد كذَّب بجميع الرسل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)، (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ)، (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ)، (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ)، (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)، فقد كذَّب كلُّ أمة رسولَها، وأضاف إليها تكذيب المرسَلين؛ لأنَّ تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم، ومَن آمن برسول وكذَّب بغيره فهو مكذِّبٌ لذلك الرسول الذي يزعم أنَّه آمن به، وقد دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الجنَّ والإنسَ إلى الدِّين الحنيف والصراط المستقيم، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فسبيلُ الهداية مقصورٌ على اتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعبد الله إلاَّ بما جاء به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا طريق يوصل إلى الله إلاَّ باتِّباع ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وحاجةُ المسلم إلى الهداية إلى الصراط المستقيم أعظمُ من حاجته إلى الطعام والشراب؛ لأنَّ الطعامَ والشرابَ زادُه في الحياة الدنيا، والصراط المستقيم زادُه للدار الآخرة، ولهذا جاء الدعاءُ لطلب الهداية إلى الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، التي تجب قراءتُها في كلِّ ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت فريضةً أو نافلةً، قال الله عزَّ وجلَّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)، فالمسلمُ يدعو بهذا الدعاء باستمرار ليهديه ربُّه صراطَ المنعَم عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وأن يُجنِّبَه طريق المغضوب عليهم والضالِّين، من اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الدِّين، وهدايةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الجنَّ والإنسَ إلى الصراط المستقيم هو النور الذي وصفه الله عزَّ وجلَّ به في قوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)، فقد وصفه الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية بأنَّه سراجٌ منير، يُضيء به للعباد الطريقَ إليه سبحانه وتعالى، وهذا أيضًا هو معنى النور الذي وصف به القرآن في قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا)، فنور القرآن ما اشتمل عليه من الهداية إلى الصراط المستقيم.
الخامسة: الإيمانُ باليوم الآخر التصديقُ والإقرار بكلِّ ما جاء في الكتاب والسنَّة عن كلِّ ما يكون بعد الموت، وقد جعل الله الدُّورَ دارين: دار الدنيا والدار الآخرة، والحدُّ الفاصل بين هاتين الدارين الموت والنفخ في الصور الذي يحصل به موت مَن كان حيًّا في آخر الدنيا، وكلُّ مَن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، والحياة بعد الموت حياتان: حياة برزخية، وهي ما بين الموت والبعث، والحياة بعد الموت، والحياة البرزخية لا يعلم حقيقتها إلاَّ الله، وهي تابعة للحياة بعد الموت؛ لأنَّ في كلٍّ منهما الجزاء على الأعمال.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بفتنة القبر ونعيمه وعذابه، وقد وردت الأحاديثُ في فتنة القبر والسؤال فيه ونعيمه وعذابه، فروى البخاري في صحيحه (86) عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن عائشة في قصة صلاة الكسوف، وفيه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء لم أكن أُريتُه إلاَّ رأيتُه في مقامي، حتى الجنَّة والنار، فأُوحي إليَّ أنَّكم تُفتنون في قبوركم مثلَ أو قريبًا لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء  من فتنة المسيح الدجال، يُقال: ما عِلمُك بهذا الرَّجل فأمَّا المؤمن أو المُوقن -لا أدري بأيِّهما قالت أسماء- فيقول: هو محمدٌ هو رسول الله، جاءنا بالبيِّنات والهُدى، فأجبنا واتَّبعنا، هو محمد ثلاثًا، فيُقال: نَمْ صالِحًا، قد علمنا إن كنتَ لَمُوقنًا به، وأمَّا المنافق أو المرتاب -لا أدري أيَّ ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدري، سمعتُ الناسَ يقولون شيئًا فقُلتُه)، وروى البخاري في صحيحه (4699) عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمُ إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمدًا رسول الله، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)
وفي مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن البراء بن عازب رضي الله عنه في الحديث الطويل (18534) ، وفيه: (فيأتيه -أي المؤمن- مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك فيقول: ربِّي الله، فيقولان له: ما دينُك فيقول: دينِي الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفيه: (ويأتيه -أي الكافر- مَلَكان فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما دينُك فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم فيقول: هاه هاه لا أدري)، وفيه قوله في المؤمن: (فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسَح له في قبره مدّ بصره)، وقوله في الكافر: (فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها، ويُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه)، وفي مصنَّف عبد الرزاق (6744) عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير: أنَّه سَمع جابر بن عبد الله يقول: (إنَّ هذه الأمَّةَ تُبتَلَى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره، وتولَّى عنه أصحابُه، أتاه ملَكٌ شديد الانتهار، فقال: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول المؤمن: أقول إنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده، فيقول له المَلَكُ: اطَّلعْ إلى مقعدك الذي كان لك من النار، فقد أنجاك الله منه، وأبدَلَك مكانَه مقعدَك الذي ترى من الجنَّة، فيراهما كلتيهما، فيقول المؤمن: أُبشِّرُ أهلي؟ فيُقال له: اسكن؛ فهذا مقعدُك أبدًا، والمنافق إذا تولَّى عنه أصحابُه يُقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرَّجل؟ فيقول: لا أدري، أقول ما يقول الناس، فيُقال له: لا دريت، انظر مقعدَك الذي كان لك من الجنَّة، قد أبدلك الله مكانه مقعدَك من النار)، (وإسناده صحيح، وله حكم الرفع”، وروى مسلم في صحيحه (588) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهَّد أحدُكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ فتنة المسيح الدجال)، وفي صحيح البخاري (1377) عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، وهذه الأمور الثلاثة التي يُسأل عنها في القبر ورد ذكرُها مجتمعة في حديث العباس بن عبد المطلب في صحيح مسلم (56) أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً)، وجاء ذكرُها أيضاً في أدعية الصباح والمساء، والدعاء عند الأذان، وقد بنَى عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رسالتَه النفيسة التي لا يستغنِي عنها عاميٌّ ولا طالب علم: “الأصول الثلاثة وأدلَّتُها”، فإنَّ مرادَه بالأصول الثلاثة: معرفة العبد ربّه ودينه ونبيّه صلى الله عليه وسلم، وقال الله عزَّ وجلَّ في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، فالآيةُ تدلُّ على أنَّهم يُعذَّبون في النار وهم في قبورهم، وإذا حصل البعث انتقلوا إلى عذاب أشدَّ، وأمَّا النَّعيم فقد جاء في الحديث أنَّ أرواح الشهداء في أجواف طير خُضر، لها قناديل معلَّقة بالعرش، تسرحُ من الجنَّة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، رواه مسلم (1887) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد في مسنده (15778) عن الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّما نسَمة المؤمن طائرٌ يعلقُ في شجر الجنَّة حتى يُرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثُه)، وهو حديث صحيح، في إسناده ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المشهورة لأهل السنَّة، قال الإمام ابن كثير في تفسيره عند قول الله عزَّ وجلَّ: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، “وقد رُوِّينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكلِّ مؤمن بأنَّ روحَه تكون في الجنَّة تسرَح أيضًا فيها وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النَّضرة والسرور، وتشاهدُ ما أعدَّ الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة” ثم ذكر سندَ الحديث ومتنَه، وفي صحيح مسلم (2868) عن زيد بن ثابت: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ هذه الأمَّة تُبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوتُ اللهَ أن يُسمعَكم من عذاب القبر الذي أسمعُ منه)، والأحاديث في عذاب القبر والاستعاذة بالله منه كثيرة، وهذه الأدلَّة تدلُّ على أنَّ المؤمنين يُنعَّمون في قبورهم، والكافرين يُعذَّبون فيها، والنَّعيمُ والعذابُ يكون للأرواح والأجساد.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالبعث بعد الموت، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)، وقال: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)، وفي هذه الآية النصُّ على بعث مَن في القبور؛ لأنَّ الغالبَ على الناس أنَّهم يُدفنون في القبور، والبعثُ يكون لكلِّ مَن مات قُبر أو لم يُقبر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، وقَبرُ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم أوَّلُ القبور انشقاقًا عن صاحبه عند البعث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة، وأوَّلُ من ينشقُّ عنه القبر، وأوَّلُ شافع وأوَّل مشفّع) “رواه مسلم (2278)”، وكثيرًا ما يأتي في القرآن تقريرُ أمر البعث ببيان ثلاثة أمور:
الأمر الأول- التنبيهُ بخلق الإنسان أوَّلَ مرَّة، قال الله عزَّ وجلَّ: (أَوَلَمْ يَرَ الإِِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)، (ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، وقال سبحانه: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)، وقال: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)، وقال تعالى: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىًَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى).
الأمر الثاني: التنبيه بإحياء الأرض بعد موتها، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)، وقال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، وقال تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، وقال عزَّ وجلَّ: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)، وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وقال: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ).
الأمر الثالث: التنبيهُ بخلق السموات والأرض وهو أعظم من خلق الناس، قال الله عزَّ وجلَّ: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقال تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا)، وقال: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) الآيات.
والبعثُ يوم القيامة يكون بإعادة الأجساد التي كانت في الدنيا لتلقى مع الأرواح الثواب والعقاب، وليس لأجساد جديدة لم تكن موجودةً في الدنيا، وهذا هو الذي استبعده الكفَّارُ وأنكروه، قال الله عزَّ وجلَّ: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)، فبيَّن سبحانه أنَّه عالِم بكلِّ ذَرَّة من ذرَّات أجسادهم التي تنقصها الأرض منهم، فيُعيدُها كما كانت فيبعث ذلك الميت بجسده الذي كان عليه في الدنيا، وقال تعالى: (وََإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، والمعنى كما ذكر ابن كثير عن جماعة من السلف أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قطع الطيورَ الأربعة وخلط لحومَها، وجعل على كلِّ رأس جبل منها قطعة، ثم دعاهنَّ فتجمَّعت أجزاءُ كلِّ طائر، حتى عادت الطيورُ على ما كانت عليه، وأتت إليه سعيًا، وقال تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وهذه الآياتُ تدلُّ على أنَّ الأجسادَ التي في الدنيا هي التي أُعيدَت وشهدت الأسماعُ والأبصارُ والجلودُ بالمعاصي التي عملها أصحابُها، ومثل هذه الآيات قوله تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، وقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ويدلُّ على ذلك من السُّنَّة حديث قصَّة الرَّجل الذي أوصى بَنِيه إذا مات أن يحرقوا جسدَه ويَرموا جزءًا من رماده في البَرِّ وجزءًا منه في البحر، فأمر الله عزَّ وجلَّ البحرَ بأن يُخرج ما فيه، والبَرَّ بأن يُخرج ما فيه، حتى عاد الجسدُ كما كان، والحديث رواه البخاري (7506)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بحشر الناس من قبورهم وغيرها على الموقف، واستشفاعهم إلى أولي العزم من الرسل لتخليصهم مِمَّا هم فيه من الشدَّة، وحصول الشفاعة العظمى لنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود، ومجيء الله عزَّ وجلَّ لفصل القضاء بين العباد، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، وروى البخاري (6527)، ومسلم (2859) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تُحشرون حُفاة عُراة غُرْلاً)، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرِّجال والنساء ينظر بعضُهم إلى بعض فقال: (الأمر أشدُّ من أن يهمَّهم ذاك)، ورواه أيضًا البخاري (6526، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال ابن كثير عند تفسير قول الله عزَّ وجلَّ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) “يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد، فكلُّهم يقول: لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبةُ إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، أنا لها، فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفِّعه الله في ذلك، وهي أوَّلُ الشفاعات، وهي المقام المحمود كما تقدَّم بيانه، فيجيء الرَّبُّ تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكةُ يجيئون بين يديه صفوفًا صفوفًا”، ويُعرَض العبادُ على الله فيُحاسبُهم على أعمالهم، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، وقال: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، وقال: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا)، وقال: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)، وقال: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن حوسب عُذِّب)، قالت عائشة: فقلت: أوَليس يقول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، قالت: فقال: (إنَّما ذلكِ العَرْض، ولكن مَن نُوقش الحساب يهلك) “رواه البخاري (103)، ومسلم (2876)”.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بحوض نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، والأحاديث فيه متواترةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد البخاري  رحمه الله في باب: في الحوض، من كتاب الرقاق من صحيحه منها تسعة عشر طريقًا من (6575  6593)، وذكر الحافظ في الفتح أنَّ الصحابةَ فيها يزيدون على خمسين صحابيًّا، ذكر خمسة وعشرين منهم نقلاً عن القاضي عياض، وثلاثة نقلاً عن النووي، وزاد عليهما قريبًا من ذلك، فزادوا على الخمسين صحابيًّا “11/468-469″، وأورد الإمامُ ابن كثير في كتاب النهاية أحاديثَ الحوض عن أكثر من ثلاثين صحابيًّا “2/29  65″، ذكرها بأسانيد الأئمَّة الذين خرَّجوها غالبًا، وممَّا جاء في صفة حوض النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قولُه صلى الله عليه وسلم: (حَوضِي مسيرة شهر، ماؤُه أبيضُ من اللَّبن، وريحُه أطيبُ من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، مَن شرب منها فلا يظمأ أبدًا) “رواه البخاري (6579) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه مسلمٌ في صحيحه (2292) ولفظُه: “حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤُه أبيضُ من الوَرِق، وريحُه أطيب من المسك، وكيزانُه كنجوم السماء، فمَن شرب منه فلا يظمأُ بعده أبدًا”، وفي صحيح مسلم (2300) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وفيه: (يشخبُ فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لَم يظمأ، عرضُه مثل طوله، ما بين عمَّان إلى أيلة، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللَّبن، وأحلَى من العسل)، ومن الناس مَن يُذادُ عن ورود الحوض، فقد روى البخاري في صحيحه (6576) عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرَطُكم على الحوض، وليُرفعَنَّ رجالٌ منكم، ثمَّ ليُختلَجنَّ دونِي، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك)،  والمراد بهؤلاء الأصحاب أُناسٌ قليلون ارتدُّوا بعد موت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقُتلوا على أيدي الجيوش المظفَّرة التي بعثها أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقتال المرتدِّين، والرافضةُ الحاقدون على الصحابة تزعمُ أنَّ الصحابةَ ارتدُّوا بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ نفرًا يسيرًا منهم، وأنَّهم يُذادون عن الحوض، والحقيقة أنَّ الرافضةَ هم الجديرون بالذَّود عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم لا يغسلون أرجلَهم في الوضوء، بل يمسحون عليها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويلٌ للأعقاب من النار) “أخرجه البخاري (165) ومسلم (242) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه”، وليست فيهم سِيمَا التحجيل التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أمَّتِي يُدعون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء) “أخرجه البخاري (136) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه”.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بوزن أعمال العباد، فإنَّها تُحصَى ثمَّ تُوزن، فمَن ثقلت موازينه نجا، ومن خفَّت موازينه هلك، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)، وقال: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ)، وقال: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)، وقال: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطُّهور شطرُ الإيمان، والحمد لله تملأُ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تَملآن أو تَملأ ما بين السموات والأرض) “رواه مسلم (223″، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) “رواه البخاري (7563) ومسلم (2694)”، والأعمالُ وإن كانت أعراضًا فالله يجعلها أجسامًا توضَع في الميزان، والحكمة من وزن أعمال العباد إظهار عدل الله وإيقاف العبد على أعماله؛ فإنَّه سبحانه وتعالى عليمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك أعمال العباد وُزنت أو لَم تُوزَن، والوزنُ كما يكون للأعمال يكون لصحائف الأعمال، كما في حديث البطاقة والسِّجِلاَّت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ سيُخلِّصُ رجلاً من أمَّتِي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ، كلُّ سجِلٍّ مثلُ مدِّ البصر، ثمَّ يقول: أتُنكرُ من هذا شيئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: أَفَلَك عُذر فيقول: لا يا ربِّ! فيقول: بلى، إنَّ لك عندنا حسنة، فإنَّه لا ظُلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه، فيقول: احضُر وزنك، فيقول: يا ربِّ! ما هذه البطاقة أمام السِّجِلات فقال: إنَّك لا تُظلَم، قال: فتُوضَع السِّجِلاَّت في كفَّة والبطاقة في كفَّة، فطاشت السِّجِلاَّت وثقلت البطاقةُ، فلا يثقُلُ مع اسم الله شيء) “أخرجه الترمذي (2639) وحسَّنه، والحاكم (1/6) وصحَّحه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (135)”، ويكون الوزنُ أيضًا للعامل لقوله صلى الله عليه وسلم عن ساقَي ابن مسعود رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لَهما أثقلُ في الميزان من أُحُد)، “وهو حديث حسن، أخرجه أحمد (3991) وغيرُه”.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالصِّراط، وهو جسرٌ منصوبٌ على متن جهنَّم، يَمرُّ عليه المسلمون للوصول إلى الجنَّة على قَدْر أعمالهم، فمنهم مَن يَمُرُّ كالبرق، ومنهم مَن يَمُرُّ كالرِّيح، ومنهم مَن يَزحف زحفًا، ففي صحيح البخاري (806)، ومسلم (299) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: (فيُضربُ الصِّراطُ بين ظهرانَي جهنَّم، فأكون أوَّلَ مَن يجوز من الرُّسل بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلاَّ الرُّسُل، وكلامُ الرُّسل يومئذ: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، وفي جهنَّم كلاليب مثل شَوك السَّعدان، هل رأيتُم شَوكَ السَّعدان؟ قالوا: نعم، قال: فإنَّها مثل شوك السَّعدان، غير أنَّه لا يَعلمُ قدر عِظَمها إلاَّ الله، تَخطفُ الناسَ بأعمالِهم، فمنهم مَن يُوبَقُ بعمله، ومنهم مَن يُخردَل ثم ينجو)، وفي صحيح مسلم (329) من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، وفيه: (وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحم، فتقومان جنبَتَي الصِّراط يمينًا وشمالاً، ويَمُرُّ أوَّلُكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمِّي أيُّ شيء كمَرِّ البرق قال: أوَ لَم ترَوا إلى البرق كيف يَمُرُّ ويرجع في طرفة عين ثمَّ كمَرِّ الرِّيح، ثمَّ كمرِّ الطير وشدِّ الرِّجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصِّراط يقول: ربِّ سلِّم سلِّم! حتى تعجز أعمالُ العباد، حتَّى يجيء الرَّجل فلا يستطيع السيرَ إلاَّ زحفًا، قال: وفي حافتَي الصِّراط كلاليب معلَّقة، مأمورةٌ بأخذ مَن أُمرت به، فمخدوشٌ ناجٍ، ومكدُوسٌ في النَّار)، وفي صحيح مسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفيه: (ثمَّ يُضرَبُ الجسرُ على جهنَّم وتحلُّ الشفاعة، ويقولون: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، قيل: يا رسول الله وما الجسرُ قال: دحضٌ مزلَّة، فيه خطاطيفُ وكلاليبُ وحسك، تكون بنَجد فيها شُويْكةٌ يُقال لها السَّعدان، فيَمُرُّ المؤمنون كطرْف العين، وكالبرق، وكالرِّيح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسَل، ومكدوسٌ في نار جهنَّم.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالشَّفاعات التي وردت في الكتاب والسنَّة، منها الشفاعة العظمى الخاصَّة بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم في تخليص أهل الموقف مِمَّا هم فيه، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأوَّلون والآخرون، من لَدن آدم عليه السلام إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقد مرَّت الإشارةُ إليها قريبًا في كلام الإمام ابن كثير رحمه الله، ومنها الشفاعة في مَن استحقَّ النارَ ألاَّ يدخلها، ويدلُّ لذلك قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء على الصراط: (اللَّهمَّ سلِّم سلِّم)، وقد مرَّ الحديثان في ذلك قريبًا عند المرور على الصراط، ومنها الشفاعة في رفع درجات مَن يدخل الجنَّة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، ويدلُّ لذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، ومنه رفع درجات زوجاته صلى الله عليه وسلم إلى درجته، ومنها الشفاعة لدخول الجنَّة بغير حساب، ويدلُّ له دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعكاشة بن محصن ليكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، “رواه البخاري (5811) ومسلم (216)”، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عن عمِّه أبي طالب حتى جُعل في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، “أخرجه البخاري (3883) ومسلم (209)”، وهذا التخفيف مخصِّصٌ لقول الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا)، ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول الجنَّة، ويدلُّ له قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا أوَّل الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثرُ الأنبياء تَبَعًا) “رواه مسلم (196)”، وفي لفظ له: (أنا أكثر الأنبياء تَبَعًا يوم القيامة، وأنا أوَّلُ مَن يقرعُ بابَ الجنَّة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (آتي باب الجنَّة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك) “رواه مسلم (197)”،
ومنها الشفاعة في إخراج أهل الكبائر من النار، وقد تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكره شارح الطحاوية “ص290″، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه، وإنِّي اختبأتُ دعوتي شفاعة لأمَّتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله مَن مات من أمَّتي لا يشركُ بالله شيئًا) “رواه البخاري (6304) ومسلم (199، واللفظ لمسلم”، وهذه الشفاعة تحصلُ من الملائكة والنَّبيِّين والمؤمنين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد في صحيح مسلم (183): (فيقول الله عزَّ وجلَّ: شفعت الملائكة، وشفع النَّبيُّون، وشفع المؤمنون، ولَم يبق إلاَّ أرحمُ الرَّاحمين …) الحديث.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ بالجنَّة والنار، وأنَّهما موجودتان الآن، وأنَّهما باقيتان إلى غير نهاية، فقد أعدَّ اللهُ الجنَّةَ لأوليائه، وأعدَّ النَّارَ لأعدائه، فمن الآيات التي فيها إعداد الجنَّة لأوليائه قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، وقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)، ومن الآيات التي فيها إعداد النار لأعدائه قوله تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)، وقوله: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، وقوله: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، ويدلُّ من السُّنَّة لكون الجنَّة والنَّار موجودتَين الآن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في صلاة الكسوف، وفيه: (قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولتَ شيئًا في مقامك، ثم رأيناك كَعْكَعْتَ، قال صلى الله عليه وسلم: (إنِّي رأيتُ الجنَّةَ، فتناولتُ عنقودًا، ولو أصبته لأكلتُم منه ما بقيت الدنيا، وأُريتُ النار، فلَم أرَ منظَرًا كاليوم قطُّ أفظع، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء …) الحديث، “رواه البخاري (1052)، ومسلم (907)”، وأمَّا ما جاء عن بعض المبتدعة كالمعتزلة من أنَّهما لا تُخلقان إلاَّ يوم القيامة؛ لأنَّ خلقَهما قبل ذلك عبثٌ، حيث إنَّهما تبقيان مدَّة طويلة دون أن ينتفع بالجنَّة أحدٌ ودون أن يتضرَّر بالنَّار أحد، فذلك قولٌ باطل، ويدلُّ لبطلانه وجوه:
الأول: ما جاء في الآيات والأحاديث الدَّالة على خَلْقِهما ووجودِهما قبل يوم القيامة، ومن ذلك ما تقدَّم قريبًا.
الثاني: أنَّ وجودَ الجنَّة فيه ترغيبٌ بها وتشويقٌ إليها، ووجودَ النار فيه تحذيرٌ منها وتخويف.
الثالث: أنَّه قد جاء في نصوص الكتاب والسُّنَّة ما يدلُّ على حصول الانتفاع بنعيم الجنَّة قبل يوم القيامة، وما يدلُّ على التضرُّر بعذاب النار قبل يوم القيامة، وقد مرَّ عند ذكر نعيم القبر وعذابه بعض النصوص الدَّالة على ذلك.
وفي الجنَّة التي أُهبط منها آدم أقوال ثلاثة:
الأول: أنَّها جنَّة الخُلد، وهو أظهرها.
والقول الثاني: أنَّها جنَّة في مكان عالٍ من الأرض.
والقول الثالث: التوقُّف.
وقد ذكر ابن القيم الخلافَ وأدلَّةَ أصحاب القول الأول والثاني، وإجابةَ كلٍّ منهما عمَّا استدلَّّ به الآخر، ولَم يُرجِّح شيئًا، وذلك في كتابه “حادي الأرواح ص16-32″، وفي قصيدته الميمية ما يدلُّ على ترجيحه القولَ الأول، حيث قال:
فحيَّ عل جنَّات عدن فإنَّها … ولكنَّنا سَبي العدو فهل ترى
منازلك الأولَى وفيها المخيَّم … نعود إلى أوطاننا ونسلَّم
الجنَّة والنَّارُ باقيتان لا تفنيان ولا تبيدان، وأهل الجنَّة منَعَّمون فيها إلى غير نهاية، والكفَّار مُعذَّبون في النار إلى غير نهاية، ومن الآيات التي جاءت في بقاء الجنَّة وخلودِ أهلها فيها قول الله عزَّ وجلَّ: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً)، وقوله: (إِِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)، ومن الآيات التي جاءت في بقاء النار وخلود الكفار فيها قول الله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وقوله: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)، وقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)، وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، وقوله: (وََالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)، وقوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)، وبقاءُ الجنَّة والنَّار وخلودُ أهلهما فيهما إلى غير نهاية لا يُنافي كون الله عزَّ وجلَّ الآخرَ الذي ليس بعده شيء؛ لأنَّ بقاءَ الله عزَّ وجلَّ لازمٌ لذاته، وبقاءَ الجنَّة والنار وأهلهِما فيهما حصل بإبقاء الله لهما، وليس لهما إلاَّ الفناء لولا إبقاء الله لهما، ويجب الإيمانُ بكلِّ ما ورد في الكتاب والسنَّة من صفات الجنَّة والنار، وما يحصلُ في الجنَّة من النعيم، وما يحصل في النار من العذاب.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمانُ برؤية المؤمنين ربَّهم في الدار الآخرة، وهي أكبر نعيم يحصل لهم في دار النَّعيم، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فمن أدلَّة الكتاب قول الله عزَّ وجلَّ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقوله: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)، قال الشافعي رحمه الله: “لَمَّا حُجب هؤلاء في حال السخط، دلَّ على أنَّ المؤمنين يرونه في حال الرِّضَا”، وقوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) الحُسنَى: الجنَّة، والزيادة: النَّظرُ إلى وجه الله عزَّ وجلَّ، فسَّرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم (297) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم فيقولون: ألَم تبيِّض وجوهَنا؟ ألَم تُدخلنا الجنَّة وتنجنا من النار قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، ثم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ))، وقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) وهو يدلُّ على إثبات الرؤية بدون إدراك، فهو يُرى ولا يُدرَك، أي: لا يُحاطُ به رؤيةً، كما أنَّه يُعلمُ ولا يُحاطُ به علمًا، ونفيُ الإدراك وهو أخصُّ، لا يستلزم نفي الرؤية وهي أعمُّ، وقوله: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، وموسى عليه الصلاة والسلام سأل اللهَ أمرًا مُمكنًا، ولَم يسأله مستحيلاً، والله عزَّ وجلَّ شاء ألاَّ يُرَى إلاَّ في الدار الآخرة؛ لأنَّ رؤيتَه أكملُ نعيم يكون فيها، وقوله: (لَنْ تَرَانِي)، أي: في الدنيا، ويدلُّ لذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا أنَّه لا يرى أحدٌ منكم ربَّه عزَّ وجلَّ حتى يموت) “رواه مسلم (2931))، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذه الأدلَّة من الكتاب وغيرها في كتاب “حادي الأرواح ص179-186″، ثم ذكر الأدلَّة من السُّنَّة عن سبعة وعشرين صحابيًّا، وساق أحاديثهم، ثم ذكر الآثارَ عن الصحابة والتابعين ومَن بعدهم من أهل السُّنَّة والجماعة، وهي تدلُّ على الاتِّفاق والإجماع على ذلك من الصحابة ومَن سار على طريقتهم.
السادسة: الإيمان بالقدر خيره وشرِّه، وقد جاء في القرآن آياتٌ كثيرةٌ، وفي السُّنَّة أحاديثُ عديدة تدلُّ على إثبات القَدر، قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وقال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَ)، وقال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)، وأمَّا السُّنَّة فقد عقد كلٌّ من الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما كتابًا للقدر، اشتملاَ على أحاديث عديدة في إثبات القدر، روى مسلم في صحيحه (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمن الضَّعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعُك، واستَعن بالله ولا تَعجَز، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقل: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدرُ الله وما شاء فعل؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطان)، وروى مسلمٌ (2655) بإسناده إلى طاوس قال: “أدركتُ ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: (كلُّ شيء بقَدر)، قال: وسمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ شيء بقدر)، حتى العَجز والكيس، أو الكيسُ والعجز”، والعجزُ والكيس ضدَّان، فنشاطُ النشيط وكسل الكَسول وعجزه، كلُّ ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث “16/205”: “ومعناه أنَّ العاجزَ قد قُدِّر عجزُه، والكَيِّسُ قد قُدِّر كيسُه”، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلاَّ وقد كُتب مقعدُه من الجنَّة، ومقعدُه من النَّار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتَّكِلُ فقال: اعملوا فكلٌّ ميَسَّرٌ، ثمَّ قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى) إلى قوله: (لِلْعُسْرَى))، “رواه البخاري (4945) ومسلم (2647) من حديث عليّ رضي الله عنه”، والحديثُ يدلُّ على أنَّ أعمالَ العباد الصالحة مقدَّرَةٌ، وتؤدِّي إلى حصول السعادة وهي مقدَّرَة، وأعمالُهم السيِّئة مقدرَّةٌ، وتؤدِّي إلى الشقاوة وهي مقدَّرةٌ، واللهُ سبحانه وتعالى قدَّر الأسباب والمسبّبات، وكلُّ شيءٍ لا يخرج عن قضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده، وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: “كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: (يا غلام إنِّي أُعلِّمُك كلماتٍ: احفظ اللهَ يحْفظْكَ، احفظ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسأل اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنَّ الأمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضُرُّوك بشيءٍ لَم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفعت الأقلامُ وجفَّت الصُّحُف) “رواه الترمذي (2516)، وقال: “هذا حديثٌ حسن صحيح”، والإيمانُ بالقدر له أربعُ مراتب لا بدَّ من اعتقادها:
المرتبةُ الأولى: عِلْمُ الله الأزلِيّ في كلِّ ما هو كائنٌ، فإنَّ كلَّ كائنٍ قد سبق به علمُ الله أزلاً، ولا يتجدَّد له علْمٌ بشيءٍ لَم يكن عالمًا به أزلاً.
الثانية: كتابةُ كلِّ ما هو كائنٌ في اللَّوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب اللهُ مقاديرَ الخلائق قبل أن يخلقَ اللهُ السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) قال: (وعرشُه على الماء) “رواه مسلم (2653) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما”.
الثالثة: مشيئةُ الله وإرادتُه، فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ إنَّما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلاَّ ما أراده الله، فما شاء الله كان، وما لَم يشأ لم يكن، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وقال: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
الرابعة: إيجاد كلّ ما هو كائنٌ وخَلْقُه بمشيئة الله، وفقًا لما علِمَه أزَلاً وكتبه في اللَّوح المحفوظ؛ فإنَّ كلَّ ما هو كائنٌ من ذوات وأفعال هو بخلْق الله وإيجاده، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، والإيمانُ بالقدر هو من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، ويُمكن أن يَعلَم الخلقُ ما هو مُقدَّرٌ بأحد أمرَين:
الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيءٌ عُلم بأنَّه مُقدَّر؛ لأنَّه لو لم يُقدَّر لَم يَقع، فإنَّه ما شاء الله كان وما لَم يشأ لَم يكن.
الأمر الثاني: حصولُ الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور تقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدَّجَّال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى بن مريم، وغيرها من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبارُ تدلُّ على أنَّ هذه الأمور لا بدَّ أن تقع، وأنَّه سبق بها قضاءُ الله وقدَرُه، ومثل إخباره عن أمور تقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بَكرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن إلى جنبه، يَنظرُ إلى الناس مرَّة وإليه مرَّة، ويقول: (ابْنِي هذا سيِّد، ولعلَّ اللهَ أن يُصلحَ به بين فئتَين من المسلمين) “رواه البخاري (3746)”، وقد وقع ما أخبرَ به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام (418) حيث اجتمعت كلمةُ المسلمين، وسُمِّي عام الجماعة، والصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم فَهموا من هذا الحديث أنَّ الحسن رضي الله عنه لن يموتَ صغيرًا، وأنَّه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصُّلح، وهو شيءٌ مقدَّرٌ، علم الصحابةُ به قبل وقوعه، والله سبحانه خالقُ كلِّ شيء ومُقدِّرُه، قال الله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقال: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، فكلُّ ما هو كائنٌ من خير وشرٍّ هو بقضاء الله وقدره، ومشيئته وإرادته، وأمَّا ما جاء في حديث عليٍّ رضي الله عنه في دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الطويل وفيه: (والخير كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك) “رواه مسلم (771)”، فلا يدلُّ على أنَّ الشَّرَّ لا يقع بقضائه وخلقه، وإنَّما معناه أنَّ اللهَ لا يخلقُ شَرًّا محضًا لا يكون لحكمة، ولا يترتَّب عليه فائدةٌ بوجه من الوجوه، وأيضًا الشرُّ لا يُضاف إليه استقلالاً، بل يكون داخلاً تحت عمومٍ، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، وقال: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، فيُتأدَّب مع الله بعدم نسبة الشرِّ وحده إلى الله، ولهذا جاء فيما ذكره الله عن الجنِّ تأدُّبُهم بنسبة الخير إليه، وذكر الشرِّ على البناء للمجهول، قال الله عزَّ وجلَّ: (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، ومن مراتب القدر الأربع كما مرَّ قريبًا مشيئة الله وإرادتُه، والفرق بين المشيئة والإرادة أنَّ المشيئة لَم تأتِ في الكتاب والسُّنَّة إلاَّ لمعنى كونيٍّ قدَري، وأمَّا الإرادة فإنَّها تأتي لمعنى كونِيٍّ ومعنى دينِيٍّ شرعيٍّ، ومن مجيئها لمعنى كونيٍّ قدَري قوله تعالى: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)، وقوله: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)، ومن مجيء الإرادة لمعنى شرعيٍّ قول الله عزَّ وجلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وقوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، والفرقُ بين الإرادَتَين أنَّ الإرادةَ الكونيَّة تكون عامَّةً فيما يُحبُّه الله ويَسخطُه، وأمَّا الإرادةَ الشرعيَّة فلا تكون إلاَّ فيما يُحبُّه الله ويرضاه، والكونيَّة لا بدَّ من وقوعها، والدينيَّة تقع في حقِّ مَن وفَّقه الله، وتتخلَّف في حقِّ مَن لم يحصل له التوفيقُ من الله، وهناك كلماتٌ تأتي لمعنى كونيٍّ وشرعي، منها القضاء، والتحريم، والإذن، والكلمات، والأمر وغيرها، ذكرها ابن القيم وذكر ما يشهد لها من القرآن والسنَّة في كتابه شفاء العليل، في الباب التاسع والعشرين منه، وكلُّ شيء قدَّره الله وقضاه وكَتَبه في اللوح المحفوظ لا بدَّ من وقوعه، ولا تغييرَ فيه ولا تبديل، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (رُفعت الأقلام، وجَفَّت الصُّحف)، وأمَّا قول الله عزَّ وجلَّ: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، فقد فُسِّر بأنَّ ذلك يتعلَّق بالشرائع، فينسخ اللهُ منها ما يشاء ويُثبتُ ما يشاء، حتى خُتمت برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، التي نَسخت جميع الشرائع قبلها، ويدلُّ لذلك قوله في الآية التي قبلها (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، وفُسِّر بالأقدار التي هي في غير اللَّوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر: “شفاء العليل لابن القيم، في الأبواب: الثاني والرابع والخامس والسادس”، فقد ذكر في كلِّ باب تقديرًا خاصًّا بعد التقدير في اللَّوح المحفوظ، وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يَردُّ القضَاءَ إلاَّ الدعاءُ، ولا يزيد في العُمر إلاَّ البرُّ) “أخرجه الترمذي (2139)، وحسنه، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (154)”، فلا يدلُّ على تغيير ما في اللَّوح المحفوظ، وإنَّما يدلُّ على أنَّ اللهَ قدَّر السَّلامةَ من الشرور، وقدَّر أسبابًا لتلك السَّلامة، والمعنى أنَّ اللهَ دفع عن العبد شرًّا؛ وذلك مقدَّرٌ بسببٍ يفعله وهو الدّعاء، وهو مقدَّرٌ، وكذلك قدَّر أن يطولَ عُمرُ الإنسان، وقدَّر أن يحصلَ منه سببُ لذلك، وهو البِرُّ وصلة الرَّحم، فالأسبابُ والمسبَّباتُ كلُّها بقضاء الله وقدره، وكذلك يُقال في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه أو يُنسَأ له في أثره فليَصِلْ رَحِمَه) “رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)”، وأجَلُ كلّ إنسان مُقدَّرٌ في اللوح المحفوظ، لا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا)، وقال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)، وكلُّ مَن مات أو قُتل فهو بأجله، ولا يُقال كما قالت المعتزلة: إنَّ المقتولَ قُطع عليه أجلُه، وأنَّه لو لَم يُقتَل لعاش إلى أجل آخر؛ فإنَّ كلَّ إنسان قدَّر الله له أجلاً واحدًا، وقدَّر لهذا الأجل أسبابًا، فهذا يموتُ بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموتُ بالقتل، وهكذا.
ولا يجوز الاحتجاجُ بالقدر على ترك مأمور ولا على فعل محظور، فمَن فعل معصيةً لها عقوبة محدَّدة شرعًا، واعتذر عن فعله بأنَّ ذلك قدر، فإنَّه يُعاقَبُ بالعقوبة الشرعية، ويُقال له: إنَّ معاقبتَك بهذه العقوبة قدَرٌ، وأمَّا ما جاء في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في القدر، فليس من قبيل الاحتجاج بالقدر على فعل معصية، وإنَّما هو على المصيبة التي كانت بسبب المعصية، فقد روى البخاري (3409)، ومسلم (2652) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجَّ آدمُ وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتْك خطيئتُك من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومُنِي على أمرٍ قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدمُ موسى، مرَّتين)، وقد عقد ابن القيم في كتابه “شفاء العليل البابَ الثالث” للكلام عن هذا الحديث، فذكر ما قيل في معناه من أقوال باطلة، وذَكَرَ الآيات التي فيها احتجاجُ المشركين على شركهم بالقدر، وأنَّ الله أَكذَبَهم؛ لأنَّهم باقون على شركهم وكفرهم، وما قالوه هو من الحقِّ الذي أُريد به باطل، ثم ذكر توجيهَين لمعنى الحديث، أوَّلهما لشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني من فهمه واستنباطه، فقال “ص35-36”: “إذا عرفتَ هذا، فموسى أعرفُ بالله وأسمائه وصفاته من أن يَلومَ على ذنب قد تاب منه فاعلُه، فاجتباه ربُّه بعده وهداه واصطفاه، وآدمُ أعرفُ بربِّه من أن يحتجَّ بقضائه وقدَره على معصيته، بل إنَّما لامَ موسى آدمَ على المصيبة التي نالت الذريَّة بخروجهم من الجنَّة، ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة، بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئةَ تنبيهًا على سبب المصيبة والمحنة التي نالت الذريَّةَ، ولهذا قال له: أخرجتَنا ونفسَك من الجنة، وفي لفظ (خيَّبتنَا)، فاحتجَّ آدمُ بالقدر على المصيبة، وقال: إنَّ هذه المصيبةَ التي نالت الذريَّة بسبب خطيئتِي كانت مكتوبةً بقدره قبل خلْقي، والقدرُ يُحتجُّ به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومُنِي على مصيبة قُدِّرت عليَّ وعليكم قبل خلْقي بكذا وكذا سنة، هذا جوابُ شيخنا رحمه الله، وقد يتوجَّه جوابٌ آخر، وهو أنَّ الاحتجاجَ بالقدر على الذنب ينفعُ في موضع ويضرُّ في موضع؛ فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وترك مُعاودته، كما فعل آدمُ، فيكون في ذِكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربِّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذَّاكر والسامع؛ لأنَّه لا يدفعُ بالقدر أمرًا ولا نَهيًا، ولا يُبطل به شريعةً، بل يُخبر بالحقِّ المحض على وجه التوحيد والبراءة من الحول والقوَّة، يوضحه أنَّ آدمَ قال لموسى: أتلومُنِي على أن عملتُ عملاً كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلَق، فإذا أذنب الرَّجلُ ذنبًا ثم تاب منه توبةً وزال أمرُه حتى كأن لم يكن، فأنَّبَه مُؤَنِّبٌ عليه ولاَمَه، حسُنَ منه أن يَحتجَّ بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمرٌ كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنَّه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكر حجَّةً له على باطل، ولا محذورَ في الاحتجاج به، وأمَّا الموضع الذي يضُرُّ الاحتجاجُ به ففي الحال والمستقبل، بأن يرتكبَ فعلاً محرَّمًا أو يتركَ واجبًا، فيلُومُه عليه لائمٌ، فيحتجَّ بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطلُ بالاحتجاج به حقًّا ويرتكبُ باطلاً، كما احتجَّ به المُصِرُّون على شركهم وعبادتهم غير الله، فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا)، (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)، فاحتجُّوا به مُصَوِّبين لِمَا هم عليه، وأنَّهم لم يَندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولَم يُقرُّوا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبيَّن له خطأُ نفسه وندم وعزَم كلَّ العزم على أن لا يعودَ، فإذا لاَمَه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله، ونُكتة المسألة أنَّ اللَّومَ إذا ارتفع صحَّ الاحتجاجُ بالقدر، وإذا كان اللَّومُ واقعًا فالاحتجاجُ بالقدر باطلٌ …”.
وقد ضلَّ في القضاء والقدر فرقتان: القدرية والجبرية، فالقدرية يقولون: إنَّ العبادَ يَخلقون أفعالَهم، وإنَّ اللهَ لم يُقدِّرها عليهم، ومقتضى قولهم هذا أنَّ أفعالَ العباد وقعت في مُلك الله وهو لم يُقدِّرها، وأنَّهم بخلقهم لأفعالِهم مُستغنون عن الله، وأنَّ الله ليس خالقًا لكلِّ شيء، بل العباد خلقوا أفعالَهم، وهذا من أبطل الباطل؛ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالَى خالق العباد وخالق أفعال العباد، فهو خالق الذوات والصفات، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، وقال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، وقال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ، وأمَّا الجبرية، فهم الذين سَلَبُوا عن العبد الاختيارَ، ولَم يجعلوا له مشيئةً وإرداةً، وسَوَّوا بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية، وزعموا أنَّ كلَّ حركاتهم بمنْزلة حركات الأشجار، وأنَّ حركةَ الآكلِ والشارب والمصلِّي والصائم كحركة المُرتعش، ليس للإنسان فيها كسبٌ ولا إرادة، وعلى هذا فما فائدةُ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، ومن المعلوم قطعًا أنَّ للعبد مشيئةً وإرادةً، يُحمَد على أفعاله الحسنة، ويُثاب عليها، ويُذمُّ على أفعاله السيِّئة ويُعاقب عليها، وأفعالُه الاختيارية يُنسبُ إليه فعلُها وكسبُها، وأمَّا الحركات الاضطرارية كحركة المرتعش فلا يُقال: إنَّها فعلٌ له، وإنَّما هي صفةٌ له، ولهذا يقول النَّحويُّون في تعريف الفاعل: هو اسمٌ مرفوعٌ يدلُّ على مَن حصل منه الحَدَث أو قام به، ومرادُهم بحصول الحَدَث: الأفعال الاختيارية التي وقعت بمشيئة العبد وإرادته، ومرادُهم بقيام الحَدَث: ما لا يقع تحت المشيئة، كالموت والمرض والارتعاش ونحو ذلك، فإذا قيل: أَكَلَ زيدٌ وشرب وصلَّى وصام، فزيدٌ فيها فاعلٌ حصل منه الحَدَث، الذي هو الأكل والشربُ والصلاة والصيام، وإذا قيل: مرض زيدٌ أو مات زيدٌ أو ارتعشت يدُه، فإنَّ الحدَثَ ليس من فعل زيد، وإنَّما هو وصفٌ قام به، وأهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الجبرية الغلاة في الإثبات، والقدرية النفاة؛ فإنَّهم أثبتوا للعبد مشيئةً، وأثبتوا للربِّ مشيئةً عامَّة، وجعلوا مشيئةَ العبد تابعةً لمشيئة الله، كما قال الله عزَّ وجلَّ: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)، (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين)، فلا يقع في مُلك الله ما لَم يشأه الله، بخلاف القدرية القائلين: إنَّ العبادَ يخلقون أفعالَهم، ولا يُعاقب العباد على أشياء لا إرادة لهم فيها ولا مشيئة، كما هو قول الجبرية، وبهذا يُجابُ عن السؤال الذي يتكرَّر طرحُه، وهو: هل العبدُ مسيَّرٌ أو مُخيَّر؟ فلا يُقال: إنَّه مسَيَّرٌ بإطلاق، ولا مُخيَّرٌ بإطلاق، بل يُقال: إنَّه مُخيَّرٌ باعتبار أنَّ له مشيئةً وإرادةً، وأعماله كسب له يُثاب على حَسَنها ويُعاقَب على سيِّئها، وهو مسيَّرٌ باعتبار أنَّه لا يحصل منه شيءٌ خارجٌ عن مشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده، وكلُّ ما يحصلُ من هداية وضلال هو بمشيئة الله وإرادته، وقد بيَّن الله للعباد طريقَ السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يُميِّزون بها بين النافع والضار، فمَن اختار طريقَ السعادة فسلكه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضلٌ من الله وإحسان، ومَن اختار طريقَ الضلالة وسلكه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عدلٌ من الله سبحانه، قال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، أي: طريقَي الخير والشرِّ، وقال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وقال: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)، والهدايةُ هدايتان: هدايةُ الدَّلالة والإرشاد، وهذه حاصلةٌ لكلِّ أحد، وهداية التوفيق، وهي حاصلةٌ لِمَن شاء اللهُ هدايتَه، ومن أدلَّة الهداية الأولى قول الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أي: أنَّك تدعو كلَّ أحد إلى الصراط المستقيم، ومن أدلَّة الهداية الثانية قول الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، وقد جمع الله بين الهدايتَين في قوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) أي: كلَّ أحد، فحُذف المفعول لإرادة العموم، وهذه هي هداية الدلالة والإرشاد، وقوله: (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أظهرَ المفعولَ لإفادة الخصوص، وهي هداية التوفيق.

السابعة: الإيمانُ عند أهل السُّنَّة والجماعة يتألَّف من اعتقاد بالقلب وقول باللِّسان وعمل بالجوارح، فهذه الأمورُ الثلاثة داخلةٌ عندهم في مُسمَّى الإيمان، قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، ففي هذه الآيات دخول أعمال القلوب وأعمال الجوارح في الإيمان، وروى مسلم في صحيحه (58) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمانُ بضعٌ وسبعون أو بضعٌ وستون شعبة، فأفضلُها قول لا إله إلاَّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبة من الإيمان)، فقد دلَّ الحديثُ على أنَّ ما يقوم بالقلب واللِّسان والجوارح من الإيمان، وأمَّا ما جاء في القرآن من آيات كثيرة فيها عطف العمل الصالح على الإيمان، كما في قول الله عزَّ وجلَّ: (إن الََذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنََاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً)، وقوله: (إِنََ الََذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََالِ؛اَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيََةِ)، وقوله: (إِنََ الََذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصََالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرََحْمَنُ وُدًّا)، فلا يدلُّ العطف على عدم دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، بل هو من عطف الخاص على العام؛ وذلك أنَّ التفاوتَ بين الناس في الإيمان يكون غالبًا لتفاوتهم في الأعمال، وفي الأقوال أيضًا؛ لأنَّ القولَ عملُ اللِّسان، بل إنَّهم يتفاوتون فيما يقوم بقلوبهم، قال الحافظ في الفتح “1/46” نقلاً عن النووي: “والأظهرُ المختار أنَّ التصديق يزيد وينقص بكثرة النَّظر ووضوح الأدلَّة، ولهذا كان إيمانُ الصدِّيق أقوى من إيمان غيره؛ بحيث لا يعتريه الشُّبهة، ويؤيِّده أنَّ كلَّ أحد يعلمُ أنَّ ما في قلبه يتفاضل، حتى إنَّه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقنيًا وإخلاصًا وتوكُّلاً منه في بعضها، وكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها”، والذين أخرجوا الأعمال من أن تكون داخلةً في مسمَّى الإيمان طائفتان: المرجئة الغلاة، الذين يقولون: إنَّ كلَّ مؤمن كاملُ الإيمان، وأنَّه لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذا القول من أبطل الباطل، بل هو كفر، ومرجئة الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، الذين قالوا بعدم دخول الأعمال في مسمَّى الإيمان، مع مخالفتهم للمرجئة الغلاة في أنَّ المعاصي تضرُّ فاعلَها، وأنَّه يُؤاخذُ على ذلك ويُعاقَب، وقولُهم غيرُ صحيح؛ لأنَّه ذريعةٌ إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، كما في شرح الطحاوية “ص47”.
والإيمانُ يزيد بالطاعة وينقصُ بالمعصية، فمن أدلَّة زيادته قول الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، وقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)، وقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)، وقوله: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)، ومن أدلَّة نقصانه قوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان) “رواه مسلم (78)”، وما جاء في حديث الشفاعة “من إخراج مَن في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان من النار)، “رواه البخاري (7439) ومسلم (302) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه”، قال الحافظ في الفتح “1/47”: “وروى  يعني اللالكائي  بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثرَ من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ، ويزيد وينقص، وأطْنَب ابن أبي حاتم واللاَّلكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكلِّ من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين، وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السُّنَّة والجماعة”.
الثامنة: أهلُ السنَّة والجماعة وسَطٌ في مرتكب الكبيرة بين المرجئة والخوارج والمعتزلة، فالمرجئة فرَّطوا وجعلوه مؤمنًا كامل الإيمان، وقالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والخوارج والمعتزلة أفرطوا فأخرجوه من الإيمان، ثمَّ حكمت الخوارج بكفره، وقالت المعتزلة: إنَّه في منزلة بين المنزلتين، وفي الأخرة اتَّفقوا على تخليده في النار، وأهل السنَّة وصفوا العاصي بأنَّه مؤمن ناقص الإيمان، فلم يجعلوه مؤمنًا كامل الإيمان كما قالت المرجئة، ولم يجعلوه خارجًا من الإيمان كما قالت الخوارج والمعتزلة، بل قالوا: هو مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، فلَم يُعطوه الإيمان المطلق، ولَم يسلبوا عنه مطلق الإيمان، وإنَّما ضلَّت المرجئة لأنَّهم أعملوا نصوصَ الوعد وأهملوا نصوصَ الوعيد، وضلَّت الخوارجُ والمعتزلة لأنَّهم أعملوا نصوصَ الوعيد وأهملوا نصوصَ الوعد، ووفَّق الله أهل السنَّة والجماعة للحقِّ، فأعملوا نصوصَ الوعد والوعيد معًا، فلَم يجعلوا مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، ولم يجعلوه خارجًا من الإيمان في الدنيا، وفي الآخرة أمرُه إلى الله؛ إن شاء عذَّبه، وإن شاء عفا عنه، وإذا عذَّبه فإنَّه لا يخلده في النار كما يخلِّد فيها الكفار، بل يُخرَجُ منها ويُدخل الجنَّة، ويجتمع في العبد إيمانٌ ومعصية وحبٌّ وبغض، فيُحَبُّ على ما عنده من الإيمان، ويُبغَض على ما عنده من الفسوق والعصيان، وهو نظير الشيب الذي يكون محبوبًا إذا نظر إلى ما بعده وهو الموت، وغير محبوب إذا نُظر إلى ما قبله وهو الشباب، كما قال الشاعر:
الشيبُ كرهٌ وكرهٌ أن نفارقه … فاعجب لشيء على البغضاء محبوب
التاسعة: الإحسانُ والإيمانُ والإسلام درجات، فأعلى الدرجات الإحسان، ودونه درجة الإيمان، ودون ذلك درجة الإسلام، فكلُّ محسن مؤمن مسلم، وكلُّ مؤمن مسلم، وليس كلُّ مؤمن محسنًا، ولا كلُّ مسلم مؤمنًا محسنًا، ولهذا جاء في سورة الحجرات: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، وللتفاوت في هذه الدرجات فإنَّه يُستثنى في الإيمان عند أهل السنة، فإذا قيل للرَّجل: أنت مؤمن قال: إن شاء الله أو أرجو؛ لأنَّ في ذكر الإيمان بدون استثناء تزكية للنفس، ومَن جاء عنه من أهل السنة ترك الاستثناء في الإيمان، فإنَّ مقصودَه أصل الإيمان الذي هو الإسلام، وليس التزكية.
العاشرة: قوله صلى الله عليه وسلم في بيان الإحسان: (أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)، والمعنى أن تعبدَه كأنَّك واقفٌ بين يديه تراه، ومن كان كذلك فإنَّه يأتي بالعبادة على التمام والكمال، وإن لم يكن على هذه الحال فعليه أن يستشعر أنَّ اللهَ مطَّلع عليه لا يخفى عليه منه خافية، فيحذر أن يراه حيث نهاه، ويعمل على أن يراه حيث أمره، قال ابن رجب في شرح هذا الحديث في كتابه “جامع العلوم والحكم 1/126”: “فقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: (أن تعبدَ الله كأنَّك تراه) إلخ يشير إلى أنَّ العبدَ يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنَّه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة (أن تخشى الله كأنَّك تراه)، ويُوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها”، وقال “1/128-129”: “قوله صلى الله عليه وسلم: “(إن لم تكن تراه فإنَّه يراك)، قيل: إنَّه تعليل للأول؛ فإنَّ العبدَ إذا أُمر بمراقبة الله في العبادة واستحضار قربه من عبده حتى كأنَّ العبد يراه، فإنَّه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأنَّ الله يراه، ويطَّلع على سرِّه وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقَّق هذا المقام سهُل عليه الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيَّته حتى كأنَّه يراه، وقيل: بل هو إشارة إلى أنَّ مَن شقَّ عليه أن يعبدَ الله كأنَّه يراه، فليَعبُدِ اللهَ على أنَّ الله يراه ويطَّلع عليه، فليستحيي من نظره إليه”، وقال “1/130”: “وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنَّدب إلى استحضار هذا القرب في حال العبادات”، وذكر جملة من الأحاديث، ثم قال: “ومَن فهم من شيء من هذه النصوص تشبيهًا أو حلولاً أو اتِّحادًا، فإنَّما أُتي من جهله وسوء فهمه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واللهُ ورسوله بريئان من ذلك كلِّه، فسبحان من ليس كمثله شيء وهو السَّميع البصير”.

7-  قوله: (قال: فأخبرني عن الساعة() قال: (ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل)، قال: (فأخبرني عن أمَاراتِها() قال: (أن تلدَ الأَمَةُ ربَّتَها، وأن ترى الحُفاةَ العُراة العالة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البُنيان)، قال: ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: (يا عمر أتدري مَن السائل() قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم)، فيه فوائد:
الأولى: اختصَّ الله بعلم الساعة، فلا يعلم متى تقوم الساعة إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وقال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)، ومنها علم الساعة، ففي صحيح البخاري (4778) عن عبد الله بن عمر قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمسة، ثم قرأ (إِِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)، وقال تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)، وجاء في السنة أنَّ الساعة تقوم يوم الجمعة، أمَّا من أيِّ سنة وفي أيِّ شهر من السنة وفي أيِّ جمعة من الشهر فلا يعلم ذلك إلاَّ الله، ففي صحيح مسلم (854) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخلَ الجنَّة، وفيه أُخرجَ منها، ولا تقوم الساعةُ إلاَّ في يوم الجمعة)، ورواه أبو داود (1046) والنسائي (1430) بلفظ: (خيرُ يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابَّة إلاَّ وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقًا من الساعة إلاَّ الجنّ والإنس) الحديث، وهو حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين، وهذه الزيادة في آخره تدلُّ على أنَّ الساعةَ تقوم في أوَّل النهار قبل طلوع الشمس.
الثانية: تُطلق الساعة ويُرادُ بها الموت عند النفخ في الصور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الناس) “رواه مسلم (2949)”، وكلُّ مَن مات قبل ذلك فقد جاءت ساعته وقامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، وتُطلق ويُراد بها البعث، كما قال الله عزَّ وجلَّ في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وهم إنَّما أنكروا البعث كما قال الله عزَّ وجلَّ: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
الثالثة: قوله: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) معناه أنَّ الخلق لا يعلمون متى تقوم، وأنَّ أيَّ سائل أو أي مسؤول سواء في عدم العلم بها، قال ابن رجب في “جامع العلوم والحكم 1/135”: “يعني أنَّ علمَ الخلق كلِّهم في وقت الساعة سواء، وهذا إشارة إلى أنَّ الله استأثر تعالى بعلمها”.
الرابعة: تعدَّدت الأسئلة للرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُجيب مَن سأله ببيان بعض أماراتها، أو يُلفت نظر السائل إلى ما هو أهم من سؤاله، ومِن الأول حديث أبي هريرة في صحيح البخاري (59) أنَّ أعرابيًّا سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال: متى الساعة فقال: (فإذا ضُيِّعت الأمانةُ فانتظر الساعة) الحديث، وأمَّا الثاني، ففي صحيح البخاري (3688) ومسلم (2639) عن أنس رضي الله عنه: “أنَّ رجلاً سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة قال: (وماذا أعددتَ لها() قال: لا شيء، إلاَّ أنِّي أحبُّ اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنتَ مع مَن أحببتَ).
الخامسة: قوله: (فأخبرني عن أماراتها …) إلخ، أماراتها: علاماتها، وعلامات الساعة تنقسمُ إلى قسمين: علامات قريبة من قيامها، كخروج الشمس من مغربها، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من السماء، وغيرها، وعلامات قبل ذلك، ومنها العلامتان المذكورتان في هذا الحديث، ومعنى قوله: (أن تلِدَ الأَمَةُ ربَّتها) فُسِّر بأنَّه إشارة إلى كثرة الفتوحات وكثرة السبي، وأنَّ من المسبيات مَن يطؤها سيِّدها فتلد له، فتكون أمَّ ولد، ويكون ولدُها بمنزلة سيِّدها، وفسِّر بتغيُّر الأحوال وحصول العقوق من الأولاد لآبائهم وأمَّهاتهم وتسلُّطهم عليهم، حتى يكون الأولاد كأنَّهم سادة لآبائهم وأمَّهاتهم، رجَّح هذا الحافظ ابن حجر في “الفتح 1/123″، ومعنى قوله: (وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) أنَّ الفقراء الذين يرعون الغنم ولا يجدون ما يكتسون به تتغيَّر أحوالُهم، وينتقلون إلى سكنى المدن ويتطاولون في البنيان، وهاتان العلامتان قد وقعتا.
السادسة: قوله: (ثمَّ انطلق فلبثت مليًّا ثم قال لي: (يا عمر أتدري مَن السائل) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإنَّه جبريل أتاكم يعلِّمُكم دينَكم)، معنى مليًّا: زمانًا فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه عن السائل بأنَّه جبريل عقب انطلاقه، وجاء أنَّه أخبر عمر بعد ثلاث، ولا تنافي بين ذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر الحاضرين ولم يكن عمر رضي الله عنه معهم، بل يكون انصرف من المجلس، واتَّفق له أنَّه لقي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث فأخبره.
السابعة: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابَه عن أشياء لِلَفْت أنظارهم إلى الاستعداد لجوابها، فيقولون: الله ورسوله أعلم، ثم يُجيبهم، كما في حديث عمر هذا، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أتدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله) قلت: الله ورسوله أعلم الحديث “رواه البخاري (2856) ومسلم (48)”، ويُشرَع للمسؤول إذا لم يكن عنده جواب أن يقول: لا أدري، أو الله أعلم؛ لصلاحية ذلك لكلِّ سؤال، بخلاف: الله ورسوله أعلم، فلا تصلح لكلِّ سؤال، فلو سأل سائل: متى تقوم الساعة تعيَّن في الجواب قول: الله أعلم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة، وأيضًا فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يعلم بما يحصلُ لأمَّته من بعده؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطُكم على الحوض، وليُرفعنَّ رجالٌ منكم ثم ليختلجنَّ دوني، فأقول: يا ربِّ أصحابي! فيُقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك) “رواه البخاري (6576) ومسلم (2297)”، والمراد بالأصحاب المشار إليهم في الحديث الذين ارتدُّوا بعد موته صلى الله عليه وسلم وقُتلوا على أيدي الجيوش التي أرسلها أبو بكر رضي الله عنه لقتال المرتدِّين.

وإلى هنا انتهى شرح هذا الحديث العظيم، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحواشي:
(1) حديث جبريل من هذه الطريق وبهذا اللفظ صدَّر به الإمام مسلم كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه، وأوَّل حديث في صحيح البخاري حديث عمر رضي الله عنه: (إنَّما الأعمال بالنيَّات)، وقد صدَّر البغوي كتابيه مصابيح السنة وشرح السنة بأوَّل حديث في صحيح البخاري، وثنَّى بهذا الحديث الذي هو أوَّل حديث في صحيح مسلم، وتبعه على ذلك النووي في الأربعين، وتقدَّم في المقدِّمة ذكر أقوال بعض أهل العلم في بيان منزلة هذا الحديث وعظم شأنه.

Scroll to Top