م. عبد اللطيف البريجاوي.
للجانب الذوقيّ في ديننا أهميّة كبيرة وأهداف عديدة منها:
1- إنّ الهدف الأول لهذه الذوقيّات والأدبيّات هو الحفاظ على ديمومة العلاقات الاجتماعيّة بشكلها الأمثل، فليس المهمّ هو تشكيل علاقات اجتماعيّة إنما المهمّ الحفاظ عليها بطريقة سليمة تنمّيها وترتقي بها، فهي مستلزمات فكريّة منطقيّة شرعيّة تقتضيها المحافظة على هذه العلاقات بصورتها المثلى.
2- إنّ الذوقيات تعكس في حقيقة الأمر رقيّ ديننا وحرصه على الحفاظ على العلاقات الاجتماعية وهو جانب مهمّ في ديننا العظيم ووسيلة دعويّة قلّما ينتبه إليها المسلمون، فمثلاً ذوق النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في زيارة المريض قادت إلى إسلام غلام يهودي كان يُحْتَضَر فعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِندَهُ فَقَالَ لَهُ: أَطِع أَبَا القَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: (الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ) “البخاري1268″، فهذا الذوق الرفيع من النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن العهد منه بخادمه وزيارته له كانت من أهمّ أسباب إسلام هذا الغلام فطيب الكلام واللهفة على الناس تؤثّر فيهم تأثيرًا عجيبًا.
3- تحويل العادات الاجتماعيّة والتي تعوّد عليها الناس إلى عبادة: وبالتالي يكون الالتزام بها عبادة مأجورة عند الله، وعندما يربط الأمر بالعبادة والسنّة فإنّ الالتزام به يكون أكثر والمحافظة عليه أكبر، فمثلاً أرادت إحدى الشركات أن تمنع العاملين فيها من التدخين ووضعت لافتات تتكلم عن مخاطر التدخين ثم قررت حسم مبالغ مالية لمن يُضبط وهو يدخّن، لكن كلّ هذه الإجراءات لم تلق نجاحًا بل إنّ الممنوع كان مرغوبًا بشكل أكبر حتى خطرت فكرة في ذهن أحد العاملين في الشركة ولاقت استحسانًا من مجلس الإدارة حيث كُتبت لافتات تحمل الحديث الشريف: (إِنَّ الملَائكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنهُ بَنُو آدَمَ) “مسلم 867″، ووضع تحتها صورة للسيجارة، وبعد مضيّ أيام قلائل كانت النتائج مبهرة إذ انخفضت نسبة المدخنين بشكل كبير، إنّ الذي حصل هو ربط قضية مهمة جدًا بالذوقيات التعبديّة التي يؤجر عليها ابن آدم.
4- إنّ الذوقيّات تختلف من مكان إلى آخر فلا بد من ضابط عامّ يضبط هذه الأدبيّات بحيث لا يتنازع فيها اثنان، ممّا يؤدي إلى الاحتكام إليها عند المنازعة، وقد تجد الكثير من المشكلات منشؤها الأساسيّ أمور ذوقيّة لم يتفهمها الطرفان ومن أحد الأمثلة الواقعية على هذا أنّ بعض الناس كانوا في دعوة وكانت المقاعد ممتلئة؛ فاحتاج رجل أن يخرج إلى الخلاء فلما رجع وجد أحد المدعويين قد جلس مكانه وكان هذا الرجل يعرف الحديث الذي رواه أبو هُرَيرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَن قَامَ مِن مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) “مسلم 4047″، فلما راجعه ذلك الرجل لم يقبل الأخير احتجاجه مما أدى إلى نزاع بينهما حتى حكم بعض أهل العلم الموجودون في الدعوة بما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولربما لو دخلنا إلى قلبَي الرجلين لوجدنا نكتًا سوداء على بعضهما، إنّ الإسلام جاء ليضع حدًّا لهذه الأمور فلو كان الرجلان يعرفان الذوق الإسلاميّ الرفيع في هذا الحديث لما وصلا إلى هذه الدرجة من النِّزاع، ولبقيت القلوب صافية.
5- إنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس ذوقًا وأرفعهم أدبًا قَالَ أَنَسٌ: خَدَمْتُهُ عَشْرَ سِنِينَ بِالمَدِينَةِ وَأَنَا غُلَامٌ لَيْسَ كُلُّ أَمْرِي كَمَا يَشْتَهِي صَاحِبِي أَنْ يَكُونَ، مَا قَالَ لِي فِيهَا أُفٍّ وَلا قَالَ لِي لِمَ فعَلْتَ هَذَا وَأَلَّا فَعَلتَ هَذَا) “أحمد”، إنّ الالتزام بهذه السنن والآداب الاجتماعيّة قربٌ من النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في الدنيا والآخرة… ففي الدنيا يكسب المؤمن محبّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن عَبد اللَّهِ بن عَمرٍو أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَقَالَ: (إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا) “البخاري3476)، وفي الآخرة يكسب القرب منه -صلى الله عليه وسلم- فعَن جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (إِنَّ مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقرَبِكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَومَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخلَاقًا) “الترمذي 1941”.
6- إنّ هذه الذوقيّات ثمرة يانعة لحسن الخلق والالتزام بالسنن والآداب الإسلاميّة: فكلما حافظ الإنسان عليها أدت إلى ألفة غريبة بينه وبين إخوانه؛ لأنّ الألفة ثمرة حسن الخلق، قال الغزالي في إحياء علوم الدين: “اعلم أنّ الألفةَ ثمرة حُسن الخلق، والتفرّق ثمرة سوء الخلق؛ فحسن الخلق يوجب التحابب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، ومهما كان المثمر محمودًا كانت الثمرة محمودة” “إحياء علوم الدين ص242/2”.
7- إنّ الذي يهم في العلاقات الاجتماعيّة ليس العبادات الشخصية كالصلاة والصيام أو الشهادات العلمية، فما يهمّني من الآخرين طريقة معاملتهم؛ لذلك ورد في الأثر (الدين المعاملة)، وقد كان بعض السلف يحبّذ صحبة الفاسق حسن الخلق عن المتعلم سيئ الخلق فعن الجنيد أنّه قال: “لأن يصاحبني فاسق حسن الخلق أحب المرجع كتاب ذوقيات إسلامية للمؤلف عبد اللطيف محمد سعد الله البريجاوي.
المصدر: صيد الفوائد.