• إتصل بنا
  • خريطة الموقع
  • الدخول | التسجيل
    • تسجيل جديد
    • دخول الأعضاء
    • فقدت كلمة المرور

بحث

مؤسسة وقف دعوتها
  • بـرامـجُـنـــا
  • شُركـاء النجـاح
  • المرصد الصحفي
  • منارات دعوية
    • الأسرة والمجتمع
    • التربية والتعليم
    • الفكر والثقافة
    • حوار الأفكار
    • فقه الدعوة
    • فقه الاحتساب
    • تجارب دعوية
    • ميدان دعوتها (المناشط والفعاليات)
  • مكتبة دعوتها
    • أبحاث دعوتها
    • مجلة دعوتها
    • تقارير دعوتها
    • خلاصات دعوية
    • إنتاجها
  • وسائط دعوتها
  • تواصل معنا
أبحاث دعوتها > الأثر في القرآن الكريم دراسة موضوعية.

الأثر في القرآن الكريم دراسة موضوعية.

الأثر في القرآن الكريم دراسة موضوعية: 
إعداد: هند بنت عبد العزيز الصقعبي.
إشراف: د. أمل القحيز.
الأستاذ المشارك في أصول الفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، الذي جعل القرآن ذكرًا ونورًا وهدًى، والصلاة والسلام على نبي الرحمة المجتبى محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، علَّمنا آي الكتاب العظيم، وأرشدنا لما فيه من الخير العميم، وحثنا على حمله في القلوب، وتدبر معانيه العَذوب، أما بعد: فإن خير العلوم في الدنيا، وأعلاها قدرًا ما كان متعلقًا بكتاب الله تعالى؛ ففيه صلاح الدنيا والدين، ومن أساليب تقريب القرآن للبشرية، وتعميق معانيه فيها، ما يسمى بالتفسير الموضوعي، وهو تناول موضوع من موضوعات الحياة أو الدين، وجمع آياته المتعددة في القرآن الكريم، ومن ثم معالجته من خلالها، وهذا النوع من التفسير يُعد من الأنواع التي استخدمها المسلمون منذ عصور قديمة، وإن لم يسموه بهذا الاسم.
ولفظة “الأثر” من الألفاظ التي جاءت في القرآن الكريم بعدة معانٍ وسياقات مختلفة، وفي تعلمها نفع كبير بإذن الله تعالى؛ لذلك ستكون منفردة بالدراسة في هذه الصفحات بعون الله.
مشكلة البحث:
لفظة الأثر من الألفاظ التي تكرر ورودها في القرآن بمعانٍ مختلفة، ولعدم وجود بحث يحرر هذه الألفاظ ويبين الفرق بينها، والأسلوب القرآني في استخدامها؛ رأيت إفرادها في هذا البحث.
حدود البحث:
يتناول البحث لفظة الأثر في القرآن بتأمل آيات الله تعالى الواردة فيها فقط، وما ورد من بيان وتفسير لها.
أهمية البحث وأسباب اختياره:
– تعلقه بكلام الله، وهو أفضل كلام، وأجلّ علم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
– الحاجة إلى بيان أسلوب القرآن الكريم في استخدام المصطلحات، ومن بينها لفظة الأثر التي جاءت بمعانٍ متعددة في القرآن.
– تنمية ملكة التدبر والاستنباط من كتاب الله تعالى.
– وافق رغبة من الباحثة وميولاً لتعلم طريقة التفسير الموضوعي، وجمع واستنباط الهدايات في الموضوع الواحد من كتاب الله تعالى.
الدراسات السابقة:
لم أقف على رسالة علمية في موضوع الأثر في القرآن.
أهداف البحث:
– معرفة معنى الأثر لغة واصطلاحًا.
– معرفة أنواع معاني الأثر في القرآن.
أسئلة البحث:
– ما معنى الأثر؟
– ما أنواع معاني الأثر في القرآن؟
منهج البحث:
اتبعت في هذا البحث المنهج الاستقرائي الاستنتاجي.
إجراءات البحث:
1- الالتزام بمنهجية التفسير الموضوعي عند بيان الآيات بما يخدم الموضوع؛ فلا أتطرق إلى التفصيل والتحليل إلا فيما احتيج إليه.
2- اعتمدت على كتب التفسير التالية: “تفسير االطبري، تفسير ابن كثير، تفسير السعدي، تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، أيسر التفاسير للجزائري” فلا أخرج عنها إلا نادرًا عندما لا أجد فيها المعنى القريب المتعلق بموضوع البحث.
3- الاعتماد في التوثيق على منهجية البحث العلمي المتعارف عليها.
4- ألحقت البحث بفهرس للمصادر والمراجع، وفهرس للموضوعات، واكتفيت بهما.
خطة البحث:
يحتوي البحث على مقدمة، تتضمن على أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وخطة البحث، وإجراءاته، ثم تمهيد، ثم مبحثين، ويختم البحث بخاتمة وفهارس.
التمهيد:
أولاً- معنى الأثر:
– الأثر لغةً.
– الأثر اصطلاحًا.
ثانيًا- الآيات المشتملة على لفظ الأثر في القرآن الكريم:
المبحث الأول: الأثر المعنوي في الآيات:
المطلب الأول: مكارم الإنسان ومنهجه وأخلاقه وطريقته.
المطلب الثاني: ما عمله الإنسان من خير وشر.
المطلب الثالث: الاختيار والتقديم والتفضيل.
المطلب الرابع: الإيثار والجود.
المطلب الخامس: النقل.
المبحث الثاني: الأثر الحسي في الآيات:
المطلب الأول: أثر الأقدام أو الحافر.
المطلب الثاني: أثر العبادة والسجود.
المطلب الثالث: حرث الأرض وعمارتها.
المطلب الرابع: آثار المطر.
المطلب الخامس: الموروث الذي يروى أو يكتب فيبقى منه شيء.
المطلب السادس: تهييج التراب ليتطاير منه الغبار.
الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج والتوصيات.
الفهارس: وهي فهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.
وأسأل المولى العلي القدير أن يكتب في هذا الجهد المقلّ التوفيق والقبول والسداد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

التمهيد:
أولاً- معنى الأثر:
· الأثر لغةً: الأثر مفرد، والجمع آثار، وأثور، ويطلق على معانٍ متعددة منها: بقية الشيء، وتقديم الشيء، وذكر الشيء، والخبر، قال ابن فارس: “الهمزة، والثاء، والراء، له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء الباقي”، ويطلق كذلك على النقل، ومنه قيل: حديث مأثور، أي ينقله خلف عن سلف، ويروى: في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سمع عمر -رضي الله عنه- يحلف بأبيه، فنهاه عن ذلك، قال عمر: (فما حلفت به ذاكرًا ولا آثرًا) أي مخبرًا عن غيري أنه حلف به، ويقال: آثر، أي: اختار، وأثر كذا بكذا: أتبعه إياه، واستأثر بالشيء: استبدّ به وخصّ به نفسه، واستأثر الله بفلان: إذا مات ورُجي له الغفران، والأثرة: بالضم المكرمة المتوارثة ويستعار “الأثر” للفضل، والإيثار للتفضيل، ويقال: “آثره” إيثارًا اختاره وفضله، وتتبع أثره ويقال آثره على نفسه والشيء بالشيء خصه به وجعله يتبع أثره، وأثر فيه ترك فيه أثرًا، و”الأثارة” العلامة، ويقال: هو ذو أثرة عندي من خلصائي، ويطلق الأثر على: بقية الشيء، وفي التنزيل العزيز: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الأحقاف: 4، الأثرة: المنزلة يقال: لفلان عندي أثرة وتفضيل الإنسان نفسه على غيره وفي الحديث: (سترون بعدي أثرة) أي: يستأثر أمراء الجور بالفيء.
ويطلق الأثر: على الأجل، وفي الحديث: (من سره أن يبسط الله في رزقه، وينسأ في أثره فليصل رحمه) وسمي الأثر به؛ لأنه يتبع العمر، قال زهير:
والمرء ما عاش ممدود له أمل … لا ينتهي العمر حتى ينتهي الأثر
وأصله من أثر مشيه في الأرض، فإن من مات لا يبقى له أثر ولا يرى لأقدامه في الأرض أثر، ويقال: “أثر السيف” أي: سلسله وديباجته ورونقه، ويطلق على: أثر الجراح يبقى بعد البرء، والتأثير: إبقاء الأثر في الشيء، ويطلق الأثر على: سمة في باطن خف البعير يقتفى بها أثره.
ومن خلال النظر في معاني الأثر اللغوية يظهر أن أغلب ما يطلق عليه هو بقية الشيء الدالة عليه أو ما له علاقة به.
· الأثر اصطلاحًا:
اختلف في معناه فقيل:
· هو المرفوع -أي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو فعله- والموقوف -هو قول الصحابي أو فعله- فيطلق عليهما معًا.
· وقيل: هو الموقوف فقط، والخبر: هو المرفوع، كما حققه أهل الأصول.
ولعل الأنسب -والله أعلم- هو المعنى الشامل للمرفوع والموقوف، لأجل أن يكون شاملاً لأغلب علوم الشريعة بأصولها وفروعها، فكما يقال دائمًا علم الأثر أو التفسير بالأثر.
وتعريفه في اصطلاح الفقهاء: أكثر ما يستعمل عندهم للدلالة على بقية الشيء، أو ما يترتب على الشيء، كقولهم في حكم بقية الشيء بعد الاستجمار: (وأثر الاستجمار معفو عنه بمحله).
ويطلق عند المعاصرين غالبًا على: حصول ما يدل على وجود الشيء والنتيجة، أو يقال: حكمه المترتب عليه بطريق المعلولية.
ويستعمل الأثر اصطلاحًا بجميع المعاني السابقة، ويُعرف المعنى المقصود فيه بحسب السياق.
وهو عندي بقية الشيء.
ثانيًا- الآيات المشتملة على لفظ الأثر في القرآن الكريم:
عند التأمل في استخدام القرآن الكريم للفظة “الأثر” نرى أنه وردت في ثلاث وعشرين آيةً في أحد عشر معنًى مختلفًا، وبأساليب وسياقات متنوعة، ولم ترد لفظة الأثر في القرآن الكريم إلا مضافةً إما إلى اسم، مثل: “أثر السجود، أثر الرسول” أو مضافة لضمير “أثارهم، أثري”، وقد وردت بعض الألفاظ المشتقة من الأثر في كتاب الله تعالى كـ”الإيثار” و”الإثارة”، وقد أدرجتها جميعًا في هذا البحث.
ويمكننا تقسيمها إلى معانٍ معنوية، ومعانٍ حسية، وأكثر معنى استعمله القرآن هو مكارم الإنسان ومنهجه وأخلاقه وطريقته وسنته التي يقتدي غيره بها، فقد وردت في ست آيات، هي:
قوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المائدة: 46، وقوله: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) الحديد: 26-27، وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الكهف: 6، وقوله تعالى: (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الصافات: 70، وقوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف: 22، وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) الزخرف: 23، وهي من الآيات التي استخدم فيها الأثر بمعنًى معنوي، ومن المعاني المتعلقة بمعنى الآيات السابقة استخدام القرآن للفظة “الأثر” للدلالة على ما عمله الإنسان من خير وشر، وهي في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يس: 12.
وجاء من معاني الأثر المعنوية في القرآن: الاختيار والتقديم، والتفضيل، وقد وردت في أربع آيات هي: قوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91، وقوله: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) طه: 72، وقوله تعالى: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) النازعات: 38، وقوله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى: 16-17، ويلاحظ أنها جاءت في مورد المدح في أول آيتَين، وفي مورد الذم في الآيتَين الآخرتَين.
ومن معاني الأثر المعنوية في القرآن: النقل، وقد ورد في آية واحدة في القرآن هي قوله تعالى: (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) المدثر: 24.
ومن الألفاظ المشتقة منه “الإيثار” وهو أعلى أنواع الكرم والجود وقد رأيت إدراجها في هذا البحث؛ لأن أصل الكلمة هو الأثر، وقد جاءت في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9.
وقد استخدم الأثر في القرآن الكريم بستة معانٍ حسية، وهي:
أولاً- موضع الأقدام أو الحافر، وقد جاء ذكرها في ثلاث آيات هي: قوله تعالى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) الكهف: 64، وقوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) طه: 95-96، وقوله تعالى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) طه: 84.
ثانيًا- أثر العبادة والسجود، وقد جاءت في موضع واحد هو قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح: 29.
ثالثًا- حرث الأرض وعمارتها -بمصانع وقصور ونحوها- وقد وردت في ثلاثة مواضع هي: قوله تعالى: (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ) غافر: 21، وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) غافر: 82، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) الروم: 9.
رابعًا- آثار المطر، وقد وردت في موضع واحد في كتاب الله، وهو قوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الروم: 50.
خامسًا- بقية الشيء، وجاء في القرآن بمعنى الموروث الذي يروى أو يكتب فيبقى منه أثر، وهو في قوله تعالى: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الأحقاف: 4.
سادسًا- تهييج التراب ليتطاير منه الغبار، وهي من لفظة “أثار” أو “إثارة” مشتقة من الأثر وقد وردت في قوله تعالى: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) العاديات: 4.

المبحث الأول: الأثر المعنوي في الآيات:
المطلب الأول: مكارم الإنسان، ومنهجه، وأخلاقه، وطريقته:
استخدم القرآن الكريم لفظ الأثر بمعنى المكارم، والأخلاق، والطريقة، والمنهج الذي يسلكه الإنسان، وقد ورد ذلك في ست آيات من كتاب الله تعالى، وهي:
أولاً- قوله تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) المائدة: 46، من خلال الآية نلاحظ أن القرآن الكريم استخدم صيغة الجمع من لفظة “الأث” وأضاف إليها الضمير الذي يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل، والمقصود في الآية أننا أتبعنا عيسى -عليه السلام- بآثار الأنبياء السابقين من بني إسرائيل فجعلناه تابعًا لهم بطريقتهم، ومنهجهم الذي ساروا عليه، والمقصود بها أصول الدين والأخلاق فإنها متفقة بين الأنبياء، وقد يقع اختلاف بينهم في الشرائع والفروع؛ لذلك بيّن الله -سبحانه وتعالى- ذلك في الآية بقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) فالمشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة، فقد يكون عيسى -عليه السلام- أخف في بعض الأحكام، كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) آل عمران: 50، ثم وصف الله سبحانه وتعالى الإنجيل بأنه هدىً ونور وفيه موعظة تؤثر بالمتقين، ففي التعبير بقوله: (وقفينا على آثارهم) إشارة إلى أن عيسى -عليه السلام- لم يكن بدعة من الرسل، وإنما هو واحد منهم، جاء على آثار من سبقوه، سالكًا مسلكهم في الدعوة إلى عبادة الله وحده وإلى التحلي بمكارم الأخلاق.
ثانيًا- قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) الحديد: 27، ومعنى هذه الآية مشابه لمعنى سابقتها، وهو أن الله تعالى أتبع على آثار الأنبياء السابقين برسله الذين أرسلهم بالبينات على آثار نوح وإبراهيم، وأتبعهم بعيسى ابن مريم، (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) يعني: الذين اتبعوا عيسى على منهاجه وشريعته، (رَأْفَةٌ) وهو أشدّ الرحمة.
وقد قال ابن عاشور -رحمه الله- عند تفسره للآية: “على آثارهم عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوءة والكتاب” والمقصود بآثارهم، أي: على منهجهم، وقد خصّ الله عيسى عليه السلام؛ لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى عليه السلام.
ويلاحظ تشابه المعنى في الآيتَين السابقتَين، فهما يرجعان إلى منهج الأنبياء الذي سلكوه، وطريقتهم، ومكارم أخلاقهم، وهي بلا شك أخلاق محمودة، وطريقة وسنة حسنة، أما بقية الآيات التي جاءت الآثار فيها بهذا المعنى ترجع إلى المنهج السيء أو الطريقة السيئة، وهي: في الآية الثالثة جاءت في سياق العتاب، وفي الآيتَين التي تليها جاءت في سياق الذم والإنكار.
ثالثًا- قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) الكهف،، 6، في هذه الآية خطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو إما بسياق العتاب أو التسلية له -صلى الله عليه وسلم- وهي نظير قوله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) فاطر: 8، وقوله: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) النحل: 127، وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الشُّعَرَاءِ: 3، فيأمر الله -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعدم الحزن على المشركين؛ لتركهم الإيمان لعلك باخع: أي مهلك أو قاتل نفسك بحزنك عليهم، فالمطلوب منك إبلاغهم برسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
رابعًا- قوله تعالى: (فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الصافات: 70، المراد بالآية: المشركون من أهل مكة الذين اتبعوا منهج آبائهم، ففي قوله: ألفوا آباءهم ضالين إيماء إلى أن ضلالهم لا يخفى عن الناظر فيه لو تُركوا على الفطرة العقلية ولم يغشوها بغشاوة العناد، ومع ذلك فهم على آثارهم يهرعون في اقتفاء وتقليد منهج آبائهم، فيسرعون في طريقهم، ليقتفوا آثارهم وسنتهم، كما يقال: أهرع فلان: إذا سار سيرًا حثيثًا فيه شبه بالرعدة.
خامسًا- قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف: 22، وهذه الآية كمعنى سابقتها إلا أنه وصفهم بالآية السابقة أنهم يسرعون في اتباع منهج آبائهم، وفي هذه الآية وصفهم بأنهم يقصدون الاهتداء باتباع آبائهم -بعبادتهم للأصنام- والمقصود ب”أمة” أي: وجدنا آباءنا على دين وملة، وجعلوا اتباعهم إياهم اهتداءً لشدة غرورهم بأحوال آبائهم بحيث لا يتأملون في مصادفة أحوالهم للحق، ولفظة مهتدون تضمين معنى سائرون وماشون، أي أنهم لا حجة لهم في عبادتهم الأصنام إلا تقليد آبائهم، وذلك ما يقولونه عند المحاجة إذ لا حجة لهم غير ذلك ثم أتبعها بالآية التي تليها، وهي:
سادسًا- قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) الزخرف: 23، ومعناها أن الله جلّ ثناؤه يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سلك مشركو قومك منهاج من قبلهم من إخوانهم من أهل الشرك بالله في إجابتهم إياك بما أجابوك به، وردّهم ما ردّوا عليك من النصيحة، واحتجاجهم بما احتجوا به لمُقامهم على دينهم الباطل، وحجتهم هي قولهم: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين (وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم) يعني: وإنا على منهاجهم وطريقتهم مقتدون بفعلهم نفعل كالذي فعلوا، ونعبد ما كانوا يعبدون، فمعناها كمعنى سابقها إلا أنه خصّ القائلين هنا بأنهم المترفون، والمترف هو: المنعم، والمراد هنا الملوك والجبابرة، ووصفهم بالاقتداء وهو مشابه لمعنى الاهتداء الذي في الآية السابقة.
ويلاحظ تشابه المعنى في الآيات الثلاث السابقة فكلها تؤكد على حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد فلا يقبل قولهم إلا بدليل من الشرع، فقد استخدمت لفظة “الأثر” فيها على صيغة الجمع، ومضافة لضمير الغائب العائد على آباء الكفار الضالين، والمقصود به منهجهم، وسلوكهم السيء الذي ساروا عليه.

المطلب الثاني: ما عمله الإنسان من خير وشر:
وهذا المعنى مشابه للمعنى في المطلب السابق -وهو الطريقة، والمنهج- إلا أني رأيت إفراده في هذا المطلب؛ لأن فيه شيء من الاختلاف عن السابق فقد ورد بهذا المعنى في آية واحدة من كتاب الله تعالى، وقد فسرها بعضهم بمعنى نوع من أنواع الأثر الحسي -وهو أثر الأقدام على الأرض- ولكن الراجح أنها عامة في أثر العمل، ومن الاختلاف بينها وبين سابقتها أن المعنى الأول منهج يتبع أما هذا المعنى فهو عمل وطريقة، ولا يشترط أن يكون منهجًا جديدًا، وإنما هو عام في كل عمل يعمله الإنسان من خير وشر فيبقى له أثر ويتحدث الناس عنه بعد موته، وقد يقتدون به، وقد يكون هو اقتدى بغيره في فعله.
والآية الوحيدة التي جاءت بهذا المعنى هي قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) يس: 12.
هذه الآية الكريمة تتحدث عن البعث بعد الموت فيخبر الله -سبحانه وتعالى- أنه سيحيي الناس بعد موتهم، ويحاسبهم على عملهم وآثرهم، وكل ذلك قد كُتب في اللوح المحفوظ، واختلف في المقصود ب”الآثار” في الآية على قولَين:
القول الأول- أن المراد بذلك آثار خطاهم بأرجلهم إلى الطاعة أو المعصية أو وقع أقدامهم على الأرض عند مباشرة العمل، ودليل ذلك ما روي عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلغه أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا من منازلهم في أقصى المدينة إلى قرب المسجد وقالوا: البقاع خالية، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم).
القول الثاني- أن الآثار هي آثار الأعمال وليست عين الأعمال بقرينة مقابلته بما قدموا مثل ما يتركون من خير أو شر بين الناس وفي النفوس، فتكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فيجزون على ذلك أيضًا إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فالمقصود بذلك ما عملوه موافقًا للتكاليف الشرعية أو مخالفًا لها وآثارهم كذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء) فالآثار هي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، وأمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلاً من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر.
وقد رجّح ابن كثير رحمه الله: ألا تنافي بين القولَين، بل في كتابة آثار الأقدام على الأرض تنبيه ودلالة على كتابة العمل نفسه بطريق الأولى والأخرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب، فإن ما يُكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى.
وإن كنتُ أميَل لترجيح القول الثاني؛ لأن الأهم هو العمل نفسه، أما كتابة أثر القدم فلم يدل دليل صريح عليه، ولا فائدة واضحة منه، أما المقصود بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني سلمة فيقصد به عملهم بالمشي لا وقع أقدامهم على الأرض، وكما نرى أنه في زماننا مع الشوارع الحديثة لم تعد للأقدام أثر في الأرض غالبًا فالمقصود هو العمل الذي يبقى أثره بعد موت الإنسان، ويذكر به، وقد حرص الصالحون -رحمهم الله- في كل زمان على هذا بإبقاء مثل هذا الأثر لهم، كقوله -تعالى- على لسان إبراهيم عليه السلام: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الشعراء: 84؛ فالناس العاديون لا يفكرون إلا بوقت حياتهم أما العظماء فإنهم يخططون ويفكرون لما بعد موتهم بعمل لا ينقطع به عملهم بعد الموت فأبقى الله -سبحانه وتعالى- آثار بعضهم حتى كأنهم أحياء بيننا اليوم مع مرور أزمنة على رحيلهم.
فالسعيد من أبقى لنفسه أثرًا حسنًا بعد الموت، نسأل الله أن يوفقنا للعمل الصالح، وأن يجعل لنا أثرًا حسنًا بعد موتنا لا ينقطع فيه عملنا.

المطلب الثالث: الاختيار والتقديم والتفضيل:
وجاء من معاني الأثر المعنوية في القرآن: الاختيار والتقديم، والتفضيل، وهو من الإيثار المشتق من الأثر بصيغ متعددة، وهي: “آثرك، نؤثرك، آثر، تؤثرون”، وقد وردت في أربع آيات هي:
أولاً- قوله تعالى: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) يوسف: 91، في هذه الآية يخبرنا الله تعالى بقول إخوة يوسف -عليه السلام- بعد توبتهم فقد قالوا: فضّلك الله علينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وأسأنا إليك غاية الإساءة، وحرصنا على إيصال الأذى إليك، وإبعادك عن أبيك، فآثرك الله -تعالى- ومكّنك مما تريد، والإيثار: التفضيل بالعطاء، والمراد هو: الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم (وإن كنا لخاطئين) وهذا غاية الاعتراف منهم بالجرم الحاصل منهم على يوسف.
ثانيًا- قوله تعالى: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) طه: 72، هذه في الآية يخبرنا الله بقول السحرة بعد توبتهم عندما توعدهم فرعون فقالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي لن نختارك، وما وعدتنا به من الأجر والتقريب على ما أرانا الله من الآيات البينات الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده المعظم المبجل وحده، وأن ما سواه باطل ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا هذا لا يكون (فاقضِ ما أنت قاض) مما أوعدتنا به من القطع والصلب والعذاب (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ينقضي ويزول ولا يضرنا بخلاف عذاب الله لمن استمر على كفره فإنه دائم عظيم.
ثالثًا- قوله تعالى: (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) النازعات: 38، والآية تتحدث عن الضال الذي قدّم الحياة الدنيا على الآخرة فصار سعيه لها، ووقته مستغرقًا في متاع الحياة الدنيا وشهواتها، ونسي الآخرة وترك العمل لها.
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي: التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره: نعيم الحياة.
ويفهم من التعبير بالإيثار -وهو تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما- أن معه نبذًا لنعيم الآخرة، ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارًا عن أن يكونوا تبعًا للغير فتضيع سيادتهم.
رابعًا- قوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) الأعلى: 16، والمقصود بالآية قول الله تعالى للمشركين: بل تؤثرون أيها الناس زينة الحياة الدنيا على الآخرة، أي: تقدمونها وتفضلونها على أمر الآخرة، وتبدونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ) لكم (وَأَبْقَى) يقول: وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى؛ لأن الحياة الدنيا فانية، والآخرة باقية، لا تنفَدُ ولا تفنى.
وقد وردت قراءتَين في لفظة تؤثرون:
1- قرأ الجمهور (تؤثرون) بمثناة فوقية بصيغة الخطاب.
2- وقرأه أبو عمرو وحده بالمثناة التحتية (يؤثرون) على طريقة الغيبة عائدًا إلى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى.
ومعناه يختارون عيش الدنيا الفانية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة خير وأبقى؛ لأن في عيش الدنيا عيوبًا كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب، وكلا القراءتين صحيحتين.
وعند التأمل في هذه الآيات نجد معنى الإيثار فيها لكنه جاء بسياقات مختلفة ففي الآية الأولى تحدثت عن تفضيل الله -سبحانه وتعالى- ليوسف على إخوته، والآية الثانية: في تفضيل السحرة للحق على الباطل عندما هددهم فرعون، والآيتين الثالثة والرابعة في مَن فضّل واختار متاع الحياة الدنيا على الآخرة، وإحداها بصيغة المفرد، والأخرى بصيغة الجمع، والتفضيل داخل فيه معنى الإيثار، ولكني رأيت إفراد الإيثار في مطلب وحده، وهو المطلب التالي.

المطلب الرابع: الإيثار والجود:
الإيثار لفظ مشتق من الأثر كما أشرت لذلك سابقًا في التمهيد، والإيثار لغةً هو: “ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة” واصطلاحًا هو: “أكمل أنواع الكرم والجود” أي: يدخل في معنى التفضيل؛ لأن فيه تفضيل للغير على النفس، لكني رأيت إفراده في هذا المطلب؛ لأنه اشتهر استخدامه بمعنى الكرم والجود في اللغة أكثر من غيره، فصار كالأصل الذي يشتق منه غيره، وهو لم يرد بهذا المعنى إلا في آية واحدة في كتاب الله، وهي: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الحشر: 9، والحديث في الآية في مدح الأنصار، وذكر محاسنهم، وصفاتهم التي تميزوا بها عن غيرهم، فأثنى جلَّ شأنه عليهم، والأنصار هم: الذين استوطنوا المدينة قبل غيرهم من المهاجرين، فأثنى عليهم بحبهم من هاجر إليهم من المؤمنين، وبطهارة قلوبهم من الأحقاد، وسلامتها من الضغائن، وبطيب أنفسهم وكرمها وسماحتها؛ فلم يجدوا في دواخلهم حرجًا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره من الأموال، فأثنى الله عليهم وكتب لهم الفوز والفلاح، فإنهم يعطون المهاجرين أموالهم إيثارًا لهم بها على أنفسهم (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم، والخصاصة: مصدر، وهي أيضًا اسم، وهو كلّ ما تخلَّلته ببصرك كالكوة والفرجة في الحائط، والمقصود بها في الآية الحاجة للشيء الذي ينفقه، وقد ضرب الأنصار أروع مثال للإيثار فقد كان إيثارهم في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتين فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجرًا، وقصص إيثارهم للمهاجرين كثيرة، وليس هذا محل بسطها، فهي مبسوطة في كتب التفاسير والأحاديث.
وعندما أثنى الله -سبحانه وتعالى- على صفة الإيثار في الأنصار فإنه يحثنا على الاقتداء بهم في هذه الصفة، وبقية صفاتهم الحميدة.

المطلب الخامس: النقل:
عند ذكر تعريف الأثر بيّنت أن من معانيه في اللغة النقل، لذلك أطلق على الأحاديث النبوية أنها مأثورة؛ لأنها منقولة، وقد جاء الأثر بهذا المعنى في آية واحدة من كتاب الله -عز وجل- بصيغة الفعل المضارع (يؤثر)، وهو قوله تعالى: (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) المدثر: 24، والمقصود بالآية الحديث عن الوليد بن المغيرة في وصفه للقرآن حيث قال: “سأبتار لكم هذا الرجل الليلة”، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فوجده قائمًا يصلي ويقرأ، وأتاهم فقالوا: مه ، قال: “سمعت قولاً حلوًا أخضر مثمرًا يأخذ بالقلوب، فقالوا: هو شعر، فقال: “لا والله ما هو بالشعر، ليس أحد أعلم بالشعر مني، أليس قد عرضت علي الشعراء شعرهم نابغة وفلان وفلان” قالوا : فهو كاهن، فقال: “لا والله ما هو بكاهن، قد عرضت علي الكهانة”، قالوا: فهذا سحر الأولين اكتتبه، قال: لا أدري إن كان شيئًا فعسى هو إذا سحر يؤثر” فكان ذلك سبب لنزول هذه الآيات فيه حيث وصف القرآن بأنه سحر منقول، ينقله النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غيره، ومأثور أي: مروي عن السحرة الأقدمين، فمعنى قوله أنه قال: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضًا كلام البشر الأخيار، بل كلام الفجار منهم والأشرار، من كل كاذب سحار، فتبًا له، ما أبعده من الصواب، وأحراه بالخسارة والتباب! فكيف يدور في الأذهان، أو يتصوره ضمير كل إنسان، أن يكون أعلى الكلام وأعظمه، كلام الرب العظيم، الكريم، يشبه كلام المخلوقين الفقراء الناقصين! والعياذ بالله.
وهذا كان هو استخدام القرآن الوحيد للفظة “الأثر” بمعنى النقل وقد انتشر استخدامه اليوم على الألسن بهذا المعنى حتى أطلق على نوع من أنواع التفسير، وهو التفسير بالمأثور.
وهكذا انتهت معاني الأثر المعنوية الواردة في الآيات، وننتقل بعدها لذكر معاني الأثر الحسية.

المبحث الثاني: الأثر الحسي في الآيات:
المطلب الأول: أثر الأقدام أو الحافر:
وقد ورد الأثر بهذا المعنى في القرآن في ثلاث آيات بسياقات متعددة سأبينها بعد ذكر معاني الآيات في هذا المطلب بإذن الله، والآيات هي:
أولاً- قوله تعالى: (قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) الكهف: 64، ومعناها موسى -عليه السلام- والفتى يقصان أي: يتتبعان أثر أقدامهما في التراب إلى المكان الذي نسيا فيه الحوت، وإنما سمي قاصًا؛ لأنه يقص أثر الأمم، ومعناه: أنهما رجعا في الطريق الذي سلكاه، حتى انتهيا إلى الصخرة حيث قام الحوت.
ثانيًا- قوله تعالى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) طه: 84، والمقصود بالآية أن الله -سبحانه- كان قد واعد موسى أن يأتيه لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر، فلما تمّ الميقات، بادر موسى -عليه السلام- إلى الحضور للموعد شوقًا لربه، وحرصًا على موعوده، فقال الله له: (وما أعجلك عن قومك يا موسى) أي: ما الذي قدمك عليهم؟ ولِمَ لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟ فأجاب موسى -عليه السلام- عن سؤال الله سبحانه فقال: إن قومي يسيرون خلفي على خطاي وقريبون مني يلحقون بي (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) يقول وعجلت أنا فسبقتهم ربِ كي ترضى عني.
وقال البغوي: “(هم أولاء على أثري)، يعني هم بالقرب مني يأتون من بعدي، (وعجلت إليك رب لترضى)، لتزداد رضًا” ، فالأثر في هذه الآية حسي، أي أن تكون آثار وقع الأقدام ظاهرة على الأرض.
ثالثًا- قوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي 96) طه.
إن موسى -عليه السلام- أنكر على السامري صنعه للعجل الذي عبده الناس فسأله عن السبب الذي حمله على هذا الفعل والأمر العظيم فقال: بصرتُ بما لم يبصروا به: أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به؛ لأنهم لم يروه، قبضة من أثر الرسول: أي قبضتُ قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل -عليه السلام- فنبذتها: أي ألقيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلاً، وبيَّن بأن نفسه زيّنت له هذا العمل الذي هو صنع العجل.
وقد تعددت صيغ الأثر بهذا المعنى إلى ثلاث صيغ، هي:
· (آثارهما) بصيغة الجمع مضاف إلى الضمير العائد على المثنى وهما موسى -عليه السلام- والفتى.
· (أثري) مضاف إلى ضمير المتكلم عائد إلى موسى عليه السلام.
· (أثر الرسول) مضافة إلى الاسم والمقصود به حافر فرس جبريل عليه السلام.
وهذا هو أول معاني الأثر الحسية ورأيت تقديمه؛ لأني لاحظت كثرة استخدامه والاستشهاد به في كتب اللغة مقارنة بالمعاني الأخرى.

المطلب الثاني: أثر العبادة والسجود:
كما بينّت عند ذكر معنى الأثر اللغوي أن من معانيه بقية الشيء، فأي علامة تبقى تدل على وجود شيء فهي أثر، ومنها العلامة التي تدل على العبادة والصلاح، وهي مشاهدة في الدنيا على وجوه الصالحين المقربين، وسيشاهدها الخلق يوم القيامة على وجوه المسلمين، وقد جاء ذكرها في قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) الفتح: 29، هذه الآية جاءت في الثناء على أصحاب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومما أثنى الله عليهم به في الآية أنهم أشداء على الكفار مع أن فيهم آباءهم وإخوتهم وذوي قرابتهم وصحابتهم، وهم مع ذلك رحماء بينهم وهم فقط إخوة دين، فهي الشدة لله والرحمة لله، ثم وصفهم الله -تعالى- بقوله: (تراهم ركعًا سجدًا) والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم، وكل ما يشغل بالهم، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم، ومن صفاتهم كذلك -وهو الذي يعنينا في الآية- أن سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وحتى نحدد المقصود بالأثر في الآية فلا بد أن نعرف ما هو السيما، فقد اختلف المراد بالسيم، اتي وُصفت بأنها من أثر السجود على قولَين:
القول الأول- ذلك علامة يجعلها الله في وجوه المؤمنين يوم القيامة، يُعرَفون بها لِما كان من سجودهم له في الدنيا.
القول الثاني- ذلك سيما الإسلام وَسمْته وخشوعه، وعنى بذلك أنه يرى من ذلك عليهم في الدنيا، فيعني ذلك ثبوت أثر العبادة الظاهرة في ملامحهم، ووضوحها على سماتهم: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله: (من أثر السجود) بل هو أثر هذا الخشوع، فهو أمر حسي يشاهد أثره في ملامح وجوه الصالحين، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
والراجح -والله أعلم- أن الله -سبحانه وتعالى- أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصفهم في وجوههم من أثر السجود، ولم يخصّ ذلك بوقت دون وقت، وبذلك فيكون في كل الأوقات، في الدنيا والآخرة.
وعند تأمل استخدام القرآن للفظ الأثر في هذه الآية نجدها مضافة إلى السجود، وهو لفظ خاص أُريدَ به العموم؛ فالمقصود به هو أثر العبادة كلها، واختار لفظ السجود؛ لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها ولتأثيرها في وضاءة وجه المؤمنين.

المطلب الثالث: حرث الأرض وعمارتها:
من معاني الأثر الحسية والتي استخدمها القرآن في عدة آيات “حرث الأرض وعمارتها” فيقال: أثرت الأرض أي: حرثتها، وهذه مبانٍ وآثار وهي تدل على الإعمار، وهي مستخدمة في وقتنا المعاصر على الآثار القديمة فهي إذًا من الألفاظ المشتقة من الأثر، وقد جاءت في القرآن بثلاث آيات هي:
أولاً- قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) غافر: 21، أو لم يسر هؤلاء المقيمون على شركهم بالله، المكذبون رسوله من قريش، في البلاد، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِم) يقول: فيروا ماذا كانت خاتمة الأمم الذين كانوا من قبلهم، الذين سلكوا سبيلهم في الكفر بالله، وتكذيب رسله (كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) يقول: كانت تلك الأمم الذين كانوا من قبلهم أشدّ منهم بطشًا، وأبقى في الأرض آثارًا، أي: أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديار، ما لا يقدر عليه هؤلاء فلم تنفعهم شدة قواهم، وعظم أجسامهم، إذ جاءهم أمر الله، وأخذهم بما أجرموا من معاصيه، واكتسبوا من الآثام، ولكنه أباد جمعهم، وصارت مساكنهم خاوية منهم بما ظلموا.
ثانيًا- قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) غافر: 82، يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر، ويأمر بالسير والتأمل بالذي حلّ بهم من العذاب الشديد، فذكر شدة قواهم، وما أثروه في الأرض، وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئًا، ولا ردّ عنهم ذرة من بأس الله؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل.
ثالثًا- وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) الروم: 9، نبههم الله سبحانه على السير في الأرض، والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم أشدّ من هؤلاء قوة وأكثر آثارًا في الأرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن زرع، فلم تغنِ عنهم قوتهم، ولا نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاؤوهم بالبينات الدالات على الحق، وصحة ما جاؤوهم به، فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إلا أممًا بائدة وخلقًا مهلكين، ومنازل بعدهم موحشة، وذم من الخلق عليهم متتابع، وهذا جزاؤهم الذي يستحقونه فهذه الأمم المهلكة لم يظلمهم الله بذلك الإهلاك وإنما ظلموا أنفسهم وتسببوا في هلاكها، فالشاهد أن المقصود بقوله تعالى: (وأثاروا الأرض) قلبوها وأثاروها للحرث والغرس والإنشاء والتعمير.
وضمير أثاروا عائد إلى ما عاد إليه ضمير كانوا أشد، ومعنى عمارة الأرض: جعلها عامرة غير خلاء وذلك بالبناء والغرس والزرع.
يلاحظ من خلال الآيات أن القرآن استخدم الأثر بهذا المعنى بصيغتَين وهما (آثارًا) و(أثارُوا) وجميعها جاءت في ذكر حرث وإعمار الأمم الهالكة للأرض.

المطلب الرابع: آثار المطر:
كما بيّنت في المطلب السابق أن حرث الأرض حتى تخرج النبات يطلق عليه إثارة لها ويقال آثار الأرض أي النباتات المحروثة، وكذلك من المعاني المشابهة له معنى هذا المطلب فيطلق على أثر المطر، والنباتات التي تخرج بسببه، والفرق بينهما أن الأول خروج النبات فيها بسبب فعل الإنسان، وأما هذا فخروج النبات فيه بسبب نزول المطر، وكلاهما بأمر وفضل الله -تعالى- فهو المنبت لها بقدرته.
وقد جاءت في القرآن بمعنى آثار المطر في آية واحدة من كتاب الله، وهي قوله تعالى: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الروم: 50، والمقصود في الآية الكريمة الحث على تأمل الأشجار والنباتات التي ازدهرت بفضل إنزال الله -تعالى- للغيث من السحاب، وكيف أحيا الله به الأرض الميتة، فأنبتها من بعد موتها ودثورها، فهو قادر كذلك على إحياء الموتى سبحانه وتعالى.
وقد وردت قراءتَين في الآية:
الأولى- (فَانْظُرْ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللهِ) على الجماع، بمعنى: فانظر إلى آثار الغيث الذي أصاب الله به من أصاب، كيف يحيي الأرض بعد موتها.
الثانية- (إلَى أَثَرِ رَحْمَةِ اللهِ) على التوحيد، بمعنى: فانظر يا محمد إلى أثر الغيث الذي أصاب الله به من أصاب من عباده، كيف يحيي ذلك الغيث الأرض من بعد موتها.
ولا فرق بين الجمع والإفراد في المعنى، وكلاهما قراءتَين صحيحتَين.

المطلب الخامس: بقية الشيء الموروث الذي يُروى أو يكتب فيبقى منه شيء:
هذا المعنى من الألفاظ المشتقة من لفظة الأثر، وهو “الأثارة” وهو شيء محسوس، ويدل على الباقي من الشيء سواءً كان من علم أو غيره، وقد جاء في كتاب الله بهذا المعنى بموضع واحد، وهو قوله تعالى: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) الأحقاف: 4، والمقصود بالآية مخاطبة الكفار، وتحديهم بأن يأتوا إما بكتاب من عند الله صادق أو ببقية من علم، جاز أن تكون تلك البقية من علم الخط، ومن علم استثير من كتب الأولين، وبخاصة علم كانوا أوثروا به تدل على صحة معتقدهم.
فمعنى الأثارة في الآية: أي: بقية من علم من علوم الأولين، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي: على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب، وقرئ: أثرة، أي: من شيء أوثرتم به وخصصتم من علم لا إحاطة به لغيركم، وقرئ: أثرة بالحركات الثلاث في الهمزة مع سكون الثاء، فالإثرة بالكسر بمعنى الأثرة، وأما الأثرة فالمرّة من مصدر: أثر الحديث إذا رواه، وأما الأثرة بالضم فاسم ما يؤثر، كالخطبة: اسم ما يخطب به، والمعاني فيها متقاربة فالمقصود بها الشيء القليل.
ونلاحظ من خلال استخدام القرآن الكريم للفظة الأثارة في هذه الآية استخدامه بأسلوب المناظرة، والتحدي للمشركين بأن يأتوا ولو بشيء قليل موروث يدل على صحة اعتقادهم، فما أجمل الأسلوب القرآني وما أقوى حججه.

المطلب السادس: تهييج التراب ليتطاير منه الغبار:
من الألفاظ المشتقة من الأثر “الإثارة” والمقصود به تهييج الشيء، وقد استخدم في القرآن لبيان تهييج حوافر الفرس للتراب ليتطاير منه الغبار، وقد جاءت في موضع واحد من كتاب الله، وهي قوله تعالى: (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) العاديات: 4، ومعنى قوله: (أثرن به نقعًا) أصعدن الغبار من الأرض من شدة عدوهن، والإثارة: الإهاجة، والنقع: الغبار.
والمقصود في الآية أن الله -سبحانه وتعالى- يقسم بخيل المعركة، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها صادحة بأصواتها المعروفة حين تجري، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو، مثيرة للنقع وهو: الغبار أي: غبار المعركة على غير انتظار، وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب! إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة، والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها.
وبهذا اللفظ المشتق من الأثر تنتهي الألفاظ التي استخدمها القرآن من لفظة “الأثر” نسأل الله تعالى أن نكون وُفقنا في طرحه.

الخاتمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى من استنّ بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن خلال بحثي في هذا الموضوع خلصت إلى النتائج الآتية:
1- عند التأمل في استخدام القرآن الكريم للفظة “الأثر” نرى أنه وردت في ثلاث وعشرين آية في أحد عشر معنًى مختلفًا.
2- لم يرد “الأثر” في القرآن إلا مضافًا إما إلى اسم أو ضمير.
3- أكثر معنًى للأثر استخدمه القرآن هو: مكارم الإنسان، وأخلاقه، ومنهجه.
4- ورد الأثر في القرآن بخمسة معانٍ معنوية، وهي: مكارم الإنسان ومنهجه، الإيثار والجود، الاختيار والتقديم، ما عمله الإنسان من خير وشر، النقل.
5- ورد الأثر في القرآن بستة معانٍ حسية، وهي: أثر الأقدام أو الحافر، أثر العبادة والسجود، حرث الأرض وعمارتها، آثار المطر، الموروث الذي يروى أو يكتب فيبقى له أثر، تهييج التراب ليتطاير منه الغبار.
وختامًا- أوصي طلاب العلم والدراسات العليا بمزيد عناية بهذا النوع من التفسير؛ لما فيه من التدبر والاستنباط الدقيق الذي يُعين على كشف كنوز القرآن الكريم.

وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

فهرس المصادر والمراجع:
– أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الخامسة، 1424 ه.
– بحر العلوم، أبو الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، دار الكتب العلمية، 2010 م.
– تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني، أبو الفيض، الملقب بمرتضى الزبيدي، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية.
– التحرير والتنوير لتحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984 م.
– تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420 ه.
– التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997 م.
– التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي، عالم الكتب 38 عبد الخالق ثروت، القاهرة، الطبعة الأولى، 1410 ه.
– الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 ه.
– جامع البيان في تأويل القرآن، مد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 ه.
– جامع العلوم في اصطلاحات الفنون دستور العلماء، القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه.
– الجامع لأحكام القرآن تفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1384 ه.
– الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422 ه.
– الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 ه.
– في ظلال القرآن، سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي، دار الشروق، بيروت، الطبعة السابعة عشر، 1412 ه.
– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 ه.
– كشاف القناع كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتي الحنبلي، دار الكتب العلمية.
– الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت.
– المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
– معالم التنزيل في تفسير القرآن، تفسير البغوي، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأولى، 1420 ه.
– معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، أبو الحسين، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 ه.
– المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، إبراهيم مصطفى-أحمد الزيات-حامد عبد القادر-محمد النجار، دار الدعوة.

الأثر في القرآن الكريم دراسة موضوعية.

2022-06-15
0 24
(0)(0)

وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://wdawah.com/%d8%a3%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%ab-%d8%af%d8%b9%d9%88%d8%aa%d9%87%d8%a7/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%ab%d8%b1-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a2%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%b1%d9%8a%d9%85-%d8%af%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d9%85%d9%88%d8%b6%d9%88%d8%b9%d9%8a%d8%a9/

جديد الأخبار

جديد الصور

خلفيات متنوعة رقم خمسة
خلفيات متنوعة رقم خمسة
2213 0

خلفيات متنوعة رقم أربعة
خلفيات متنوعة رقم أربعة
2411 0

خلفيات متنوعة رقم ثلاثة
خلفيات متنوعة رقم ثلاثة
2443 0

خلفيات متنوعة رقم اثنين
خلفيات متنوعة رقم اثنين
2390 0

مؤسسة وقف دعوتها

Copyright © 2022 wdawah.com All Rights Reserved.

Powered by Tarana Press Version 3.5.8
برمجة وتصميم ترانا لتقنية المعلومات | ترانا بريس